صوت الوسواس يتحوَّل إلى إدمان:
أظنُّك اكتشفت أنْ الوسواس هو نوعٌ من السُلوك الإدمانيّ، فكِلاهما عادة وحالة نفسيَّة تُؤثِّر على السلوك، وتجعل الواحد منَّا يرغب في القيام بفعلٍ من أجل تحقيق الراحة النفسيَّة، قد يكون السُلوك هو بحثٌ فكريُّ معمقٌ، فماذا تتوقع لِطبيبٍ يُعاني من وسواس الجراثيم ، غير أن يكون مدمنًا على رصد الجراثيم المُتطايرة حول الأشياء! وكيف سيكون حاله لو كان مُتدينًا ويخشى دُخول محتوًى نجسٍ في تركيبة الدَّواء، أعتقد أنَّه سيُلاحظ برودة الثَّلاجة بوصفها من نواقل النَّجاسة الكامنة في مكوِّنات الدَّواء الَّتي أشبعها بالبحث، وربَّما بمُراسلة شركات الإنتاج، هذا سلوكٌ إكراهيٌّ يشبه الإدمان، وذلك العقل الجبَّار والعبقري للطبيب هو الآن مجرَّد خادمٍ للوسواس.
إدراك خاصية الزَّوال، وأنَّ دوام الحال من المُحال، هي إحدى أهم الخطوات في مواجهة الوسواس، وإدمان اليأس، والشعور بعدم القدرة؛ لأنَّ الوسواس كذلك شيء قابل للتصرم والرحيل، وعندما تفكُّ الارتباط معه، وتتبنى وجهة النَّظر القائلة هذا الشعور أيضًا سيتلاشى، تكسب رؤيًة أوضح للأحداث، لن تطلب بعد ذلك تحديد جدولٍ زمنيٍّ لينسحب منك الوسواس، فهذا المطلب غير منطقيٍّ، ما دمت تركز عليه وتعطيه وزنًا فلن تشعر بالأمان، ولا يُمكن لشيءٍ أنْ يملأك فرحًا، فقط وفقط هو يرحل حينما تكتشف قيمتك الحقيقيَّة، وحينما تسمو فوق الخواطر، وعندما لا تكون في حالةٍ تشبه المُنوَّم مغناطيسيًّا، الغافل، المتقبل لِكُّلِ ما يُقال له.
نعود لنؤكد أنَّ أكثر أنماط الوسواس لها تَمَظْهُرٌ سلوكيٌّ، إلَّا أنَّ الوسواس المُتمحِض في التَّفكير هو الأخطر، والأشدُّ فتكًا بضحيته، إنَّه عادةً ما يكون مُحاطًا بشعورٍ بغيضٍ، وبضعفٍ عامٍ في طاقتك الحيويَّة، إنَّه يمتص بلا انقطاع قدراتك العقليَّة، ويوجه كُلَّ مجهودك الفكريِّ لبؤرةٍ واحدةٍ، وللأسف هي وهمٌ وسرابٌ ليس أكثر، تذكر لِهذا النوع من الوسواس أنَّك نفخةُ الرُّوح، ركّز على معنى نفخة، على الهواء الَّذي يدخلُ في شيءٍ ليملأ كيان ذلك الشيء، هذا النشاط هو ما سنمارسه لفكِّ الارتباط مع تلك الأفكار الثقيلة والمكثفة، سنكون حريصين وبشدّةٍ على التَّنفس، أعني الشهيق ثم الزفير، مع الوعي للهواءِ، وهو يجتاحك ثم يخرج؛ لأنَّ التَّنفس الواعي يُعطِّل الفكرة الوسواسيَّة، وهذا ما نحتاج له، أنْ نضع العراقيل أمام التماهي معها، فنتوقف عن التَّفكير، ولكن دون أن نخسر اليقظة.
الرَّصد والتَّخلِّي:
يعمل حديث النَّفس بطلاقةٍ، ونشاطٍ مع اللاوعي، ولكن إذا كنت مسترخيًّا منتبهًا بشكلٍ كافٍ، فسوف تتمكن من رصد آليَّة عمل الوسواس في داخل نفسك:
● قد تكون شخصًا وضع لنفسه معايير صارمةٍ في الحياة، وهو غير راغبٍ أنْ يرى في نفسه عدم النَّزاهة؛ ولِذا يصنع الوسواس له هوس التدقيق الفكريَّ والسلوكيَّ على نفسه والمحيط.
● رُبَّما أنت شخصٌ تُقدم خدماتٍ للقاصي والداني، ولكنك لا تحصل على التَّقدير الَّذي تطلبه، فتغضب وينتشي في داخِلك الوسواس.
● أو ترى قيمتك في العمل، فأنت بدون عملٍ لا شيء يُذْكَر، وعندما تأخذ قِسطًا من الرَّاحة، أو تسترخي لِفترةٍ طويلةٍ تشعر بالفراغ، وتبدأ تُفتِّش عن قيمتك، فتهجم عليك الوساوس من هذا الباب.
● قد تكون طوَّرت أسلوبًا لِجذب الانتباه لِمُشكِلَتِك وقِصتك، فإنْ لم تجد من يلتفت لك، فسحت المجال للوسواس لِيُرَاكِم لك (الدراما)، ويصطنع لك مُشكلةً تُلِفت الأنظار.
● أحيانًا تكون غير آمنٍ من المجتمع، وتشعر بالرِّيبة لأنَّك لا تكتفي بحدٍ بسيطٍ من المعلومات، لِذا تأخذ دور المُراقب، فيهجم الوسواس من بوابة عدم الأمن.
● في حالاتٍ تكون لستَ واثقًا من نفسك، وتجد أنَّ حياتك لا تتم إلَّا في وسط حشدٍ من المستشارين تقول لِنفسك: “ما دُمت لا أجد الأمن في داخلي، فلابد أنْ يمنحني أحدهم ذلك الأمن”، وقد ملأ الوسواس تلك الفجوة بينك وبين الثقة بالذات.
● أو ربَّما اعتدت على فرط النَّشاط، وتعداد التجارب، فأنت تفقد متعة الحياة حينما تكون لوحدك، والوسواس يشتغل عليك من خلال تشتتك الذهنيّ.
● قد تكون من الأفراد الَّذين يرتدون دروعهم دائمًا، وكأنَّما الحياة ميدان حربٍ، لا تشعر بالأمن إلَّا إذا كانت كُلُّ الأُمور بيدك، والوسواس يتسلل لك من هذه الثغرة.
● وربَّما الكسل، فأنت تميل للرَّاحة والسُكون، وتبحث عن أقرب الأبواب للهروب من المشكلة، وقد عرف الوسواس رغبتك هذه فمهد لك أخصر الطرق للسقوط في شباكه.
أيُّ نمطٍ رصدت من اللاوعي، واكتشفته طبِّق عليه هذا السؤال: ماذا يحصل لو تخليتُ عن هذا النَّمط ؟، وكيف سيكون شعوري؟، وماذا سيحدث لي؟
كن على ثقةٍ أنَّك بدون اليقظة هذه سوف ينتهي كُلُّ ما تقوم به من ردود أفعالٍ وآليات دفاعٍ إلى نوع من المعاناة.