دور العلم في تحقيق التكامل
السير والسلوك القلبي في مسيرة التكامل إنما يبدأ إذا عرف الانسان هدفه وسبيله إلى هذا الهدف، وراح يخطو في هذا السبيل بارادته واختياره، فالشرط الأساسي هو العلم والمعرفة، وما محل العلم في السير التكاملي؟ هل هو كمال أم لا؟
فإنَّ المشائين يرون أنَّ العلم هو الأصل والغاية للكمالات الانسانية كلها، وهؤلاء مجموعة فلاسفة رأت أن العلم الحصولي لا ربط له بالكمال بل هو مانع و (الحجاب الأكبر)، رأي الكاتب: آخر مرحلة للسير للكمال هي من سنخ العلم الحضوري، ومثل هذا العلم هو الكمال الأصيل.
والعلم الحصولي إمّا هي نظري أو عمليّ، أمّا النظريّ فهو وإن لم يكن مرتبط مباشرة بالمسيرة، لكنّ بعضها مثل العلوم الإلهيّة لها دورها في مساعدة الإنسان لمعرفة الهدف، ومتى ما استُعين به للوصول إلى القرب الإلهيّ، فإنّه ستكون كمالًا مقدّميًّا قيّمًا، أمّا علاقة العلوم العمليّة بالسير التّكامليّ ومقدّمّاته، فإنّها لا تحتاج إلى التوضيح، فمن الجليّ أنّ التكامل الواعي للإنسان منوطٌ بها.
ويجب الالتفات إلى أنّ جذور السعادة الحقيقيّة تنمو في القلب، لا في الأعضاء والجوارح ووسائل العمل، وأنّ الدور الأساسيّ للسير نحو الله يقوم به القلب، وعليه، فالأصالة النسبيّةّ هي للنشاطات القلبيّةّ، أمّا الأعمال الخارجيّة، فهي تكتسب قيمتها في ظلّها، لا العكس، كما يمكن للعلم أن يكون مقدّمة للأعمال الحسنة، فيكتسب قيمة، فيمكنه أن يلعب دورًا أهمّ بعنوان كونه مقدّمة للإيمان، وهو بدوره مقدّّمة العمل وأساس له.
إن اعتبار الإيمان كتصديق ذهنيّ هو بعينه اعتبار العلم، وبذلك ليس أمرًا اختياريًّا؛ لأنّ بعض العلوم يدركها العقل بالبديهيّة، وليس للإنسان أيّ اختيار في تحصيلها والتصدّق بها، وإنّ المقصود من الإيمان في هذا البحث والاعتبار في القرآن والنصوص الدينيّة أساسًا للسعادة، فهو حقيقة تختلف عن المعنى المقابل للكفر والجحود، ويتفاوت عن المعرفة؛ إذ ما أكثر أن يعرف الإنسان شيئًا، ولكنّ قلبه يرفضه ولا يلتزم بلوازم تلك المعرفة. ومثل هذا الإنكار مع العلم أشدّ سوءًًا من الإنكار مع الجهل وأكثر ضررًًا بالتكامل الإنسانيّ، وهذا القرآن الكريم يصفهم (وَجَحَدُواْ بِهَا وَٱستَيقَنَتهَآ أَنفُسُهُم ظلُمٗا وَعُلُوّا).
النتيجة هي أنّ الإيمان عبارة عن قبول القلب للأمر الذي صدّّق به العقل والذهن، والتزامه باللوازم المترتّبة عليه كلّها، وعزمه الإجماليّ على تنفيذ لوازمه العمليّة، فالإيمان منوط ومشروط بالمعرفة؛ لكنّه ليس هو العلم نفسه ولا اللازم الدائم له، ومن هنا تتوضّحّ العلاقة بين الإيمان والعمل، ذلك أنّ الإيمان يقتفي العمل، ولكنّه ليس العمل الخارجيّ نفسه، وإنّمّا هو سرّه ومانحه وجهته، وأنّ الصلاح واللياقة والحسن الفاعليّ للفعل منوطٌ بالإيمان، فإذا لم يستمدّ العمل وجوده من الإيمان بالله، فإنّه لن يؤثّر في السعادة الحقيقيّة للإنسان وإن كان عملًا صالحًا، وكانت له منافع كثيرة في الدنيا للإنسان أو للآخرين.
العلاقة بين العلم والايمان والعمل
الخطوة الأولى في السيره نحو الكمال النهائي (القرب من الله) هو الإيمان، وهذه الخطوة أساس الخطوات التالية، وروح مراحل الاستكمال كلّها، وأمّا الخطوة الثانية في السير فهي النشاط الذي يقوم به القلب بعد الإيمان بالله، بغضّ النظر عن الأعضاء والجوارح؛ أي التوجّه لله، وهو ما يعبَّر عنه بذكر الله (وَٱذكُرُواْ ٱللَّهَ كَثِيرا لَّعَلَّكُم تُفلِحُونَ).
والخطوة الثالثة هي الأعمال الباطنيّةّ الأخرى التي يؤدّيها الإنسان باسم الله، مثل التفكير في آيات الله وقدرته، وبعد هذا تُقبل التوبة للأعمال البدنيّة المختلفة، وبعبارة أخرى إنّ العزم الإجمالي هو من لوازم الإيمان، يتجلّى في مظاهر مختلفة، وفي قالب الإرادات التفصيليّة والجزئيّة، وهذه الإرادات توجب تقوية ذكر الله والإيمان به (وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ لِذِكرِيٓ) (وَٱلعَملُ ٱلصَّٰلِحُ يَرفَعُهُ)، وكذلك إذا كانت هناك إرادة على خلاف مقتضى الإيمان، فإنّها تؤدّي إلى ضعف الإيمان، إذًا العلاقة بين الإيمان والعمل هي تمامًا مثل العلاقة بين جذر النبات والأعمال النباتية.
عرفنا من البحوث الماضية حقيقة الكمال النهائيّ وهدف السير التكامليّ للإنسان بشكل إجمالي، ونتحدث هنا حول تدبير النفس ليقطع سبيل التكامل، أي كيف نستطيع تحقيق المقدّمات اللازمة لاتّخاذ الإجراء القاطع وامتلاك الإرادة الجديّة لقطع سبيل العبادة والقيام بواجبات العبوديّة، إنّنا نعلم أنّه توجد في كلّ موجود حيّ ميزتان أساسيّتان، هما “الإدراك” و “الحركة الإراديّة“، ومجموعهما يعبّر عن الفصل والميزة الجوهريّة للإنسان.
توجد هاتان الخاصّيتان أيضًا بشكل أوسع وأعمق وأعقد في الإنسان، باعتباره موجودًا حيًّا متميّزًا، وتشكلان جهازين مشتركين للروح والبدن؛ أحدهما جهاز الإدراك، والثاني جهاز الإرادة، ولمّا كان هذان الجهازان مرتبطيْن ملتحميْن تمام الالتحام، ولقد حققّ الفلاسفة والعلماء منذ القدم في الإدراكات والغرائز الإنسانيّة، وقسّموها إلى أقسام مختلفة، ونحن هنا بغضّ النظر عن البحوث العلميّة المصطلحة والاستنتاجات، نكتفي بمطالعة سريعة حول تفاعلاتنا الروحيّة حول الإدراك، وكذلك متطلّبات الإرادة وكيفيّة بعثها وحصول الفعل الإراديّ، لكي نحصل على المعارف اللازمة لبناء النفس وتوجيه أعمالنا الوجهة الإلهيّة الصحيحة.
جهاز الادراك
يتحقّق الإدراك بصورة مختلفة فهناك مجموعة من الإدراكات تحصل عبر تفاعلات فيزيوكيماويّةّ أو فيزيولوجيّة خاصّة بين الموادّ الخارجيّة والأجهزة الحسيّة، مثل الرؤية والسّمع والشّم والذوق واللّمس، وهناك مجموعة من الإدراكات الجزئيّة تحصل دون أن يكون هناك أيّ تماسّ للموادّ الخارجيّة بالبدن، مثلا الإحساس بالجوع والعطش، وهناك مجموعة ثالثة من إدراكاتنا تحصل في الذّهن بواسطة القوى النفسّية الخاصّة، ولهذه الإدراكات أنواع مختلفة.
ونؤكّد على أنّنا نجد إجمالًا في أنفسنا مدركات تبقى بشكل ما في الذهن بعد أن تنقطع الصلة بين حواسّنا مع الخارج، وقد تعود بعد الغفلة أو النسيان مجدّدًا إلى الخاطر، وتنعكس في شاشة الذهن الواعية، وهكذا مدركات الحسّ الباطني والحالات الانفعاليّة وسائر الأمور الإدراكيّة.
النوع الآخر من نشاطات الذهن يرتبط بدرك المفاهيم الكليّة التي تتحقّق عبر تجريد الإدراكات الجزئيّة، أو بصورة أخرى يشبه هذا إيجاد المفاهيم الخاصّة التي يُعبَّر عنها بــ المعقولات الثانية، مثل مفهوم الوجود والعدم والوجوب والإمكان
وهناك نوع آخر من الفعاليّة الذهنيّة في مورد الإدراك، هو تركيب وبناء القضايا بإيجاد نوع من الوحدة بين المفاهيم المتعدّدة، وكذلك عبر تركيب قضّيتين نصل مع ظروف وشروط خاصّة إلى إدراك قضيّة أخرى، تُسمّى “نتيجة البرهان“.
وثمّة نوع آخر من الإدراك يتوافر لدى الجميع، هو عبارة عن العلم الحضوريّ لنا بأنفسنا وقوانا وأفعالنا ووسائلنا البدنيّة وتأثيراتنا العصبيّة، ويوجد أيضًا نوع من الإدراك الحضوريّ بالنسبة إلى المبادئ العالية للمبدأ الأعلى، وهو يحصل في البدء لدى الأفراد العاديّين بشكل لاشعوريّ، لذا يجب السّعّي الأكيد لإيصاله إلى مرحلة الشعور، كما توجد إدراكات أخرى تؤخذ من الجنّ أو الأرواح غير هذه الإدراكات المعروفة، وكذلك الوساوس الشيطانيّة والإلهامات الملائكيّة والرحمانيّة.
وفوق هذه الإدراكات كلّها، هناك الوحي النازل على الأنبياء عليهم السلام ويشبهه الإلهام والتحديث الذي يخصّ به سائر العباد الخلّصّ، علاوة على هذا، يمكن أن نذكر كلّ الإدراكات والصور الحاصلة في الذهن دون أن يصحبها أيّ تفسير منطقيّ وفلسفيّ، مثل كلّ الوساوس الشيطانيّة التي قد تغزو أذهاننا ونعرف نتائجها عيانًا في أنفسنا، ولا نعرف ماهيّتها والسّبيل العام للتصديق بأصل هذه الإدراكات وكيفيّة حصولها عبارة عن التعبّد بقول المعصوم عليه السلام، أو نقل أولئك الذين تلقّوها ونحن نعرف صدقهم في ما ينلقون.