الغضب من منظور الدين الإسلامي
لا شيء يفقد المرء عقله ويظهره بصورة الأحمق الأخرق ويدّمر علاقاته الشخصية ومستقبله المهني وصحته الجسدية والنفسية كالغضب عندما ينفلت من زمامه، ويكون غضبًا مذمومًا، فمهما كانت الأسبابُ التي تؤدي لمثل هذا الغضب إلا أنَّها مرفوضةٌ عقليًا ودينيًا ولا يستطيع فاعلُهَا تبريرها أو التذرع بأسبابها، لأنَّهُ طالما كانت رداتُ الفعل الطبيعية عند البشر متفاوته، وأقل حدة مما وصل إليه هذا الغاضب عندما تعرضوا لنفس الأسباب وربما أشد منها، فمهما كانت الأسبابُ قويةً ستجد عبر التاريخ المعاصر أو في الزمن الغابر أنَّ آخرين قد تعرضوا لما هو أشد منها وتعاملوا معاها بأساليب أجبرتْنَا على احترام هذه المواقف الحكيمة، مما يجعل الغاضب في موقف حرجٍ جدًا، وحتى إن لم يُعِرْ هذا الغاضبُ اهتمامًا لنظرة المجتمع له وكان غير مكترثٍ للأضرار الناتجة عن هذا الغضب المرضي في علاقاته الشخصية والمهنية، إلا أنَّ آثار هذا الغضب المدمّر على صحته الجسدية والنفسية كما يشير لها علماءُ النَّفس تجعله يخضع للمنطق، فالإفرازاتُ الكيميائيةُ لهذا الغضب في العقل تؤثر سلبًا على شرايين القلب وعمليات الأيض، واختلال في هرمونات الغدة الكظرية، والإصابة بمرض ارتفاع ضغط الدم، وزيادة معدل ضربات القلب، وزيادة احتمالية الإصابة بالسكتات القلبية، والتعرض للكآبة والأرق وما إلى ذلك من أعراض فسيولوجية، قد يتعرضُ لها جسم الإنسان نتيجة لمثل هذا الغضب المرضي المدمّر لصحته.
أمَّا الأسباب التي تقودُ الإنسان للغضب فهي متعددة، مثل تعرضه للظلم وانتهاك حقوقه أو إهانته أو ربما فشله في تحقيق أهدافه يدفعه للغضب، سواءً كان ذلك الفشلُ ناتجًا عن عرقلة من أطراف خارجية أو حتى بإخفاق منه يدفعه للسخط على نفسه والآخرين.
ويشير علماءُ النَّفس إلى أنَّ المصاب بالغضب عادةً ما يكون مخطئًا في تقديره وقراءته للعوامل التي تسبّبت في غضبه، لأنَّ هذا الغضب يفقدُهُ صوابُهُ وقدرتُهُ على الملاحظة بشكلٍ موضوعي، ما يعني أنَّ هذا الغاضب لا يجد غالبًا من يتفق معه حتى على تبرير غضبه، وهذا “يزيدُ الطين بلة“، وربما يدفعه لنوبة غضب أكبر، وكلَّما فقد الإنسانُ سيطرتَهُ على نفسه كلما أفقده هذا القدرةَ على معالجة المواقف وتشويه موقفه وصورته أمام الناس.
قدماءُ الفلاسفة اليونانيين اعتبروا الغضب نوعًا من أنواع الجنون أي المرض النفسي، ورفضوا عفوية الغضب الجامح بل حتى أنَّهم رفضوه في الحروب، وهي ربما المكان الأكثر عرضة واستدعاءً للغضب، إلا أنَّهم رفضوه حتى في مثل هذا الموقف، واعتبروا أنْ لا طائل منه، ولا منفعة من استخدامه، وتاريخيًا اعتُبر الانضباطُ في الجيش الروماني سببا رئيسيا للفوز على الألمان المعروفين بغضبهم، الأمر الذي تجدُهُ يتكرر ويحدث في كل معركة وميدان من ميادين الحياة، فكلما غضب الشخص أو المجتمع كلما أفقدهم هذا الغضب صوابهم وحكمتهم ونظرتهم للأمور بعين الروية.
إذن لا مصلحة من الغضب المفرط المذموم حتى في أكثر المواقف تبريرًا للغضب وهي معارك الحرب، نعم قد يستخدمُ الغضبُ المبالغ فيه (المفتعل) كإستراتيجية للتلاعب بالطرف الآخر، فهذا لا يعتبر من الغضب الذي نتحدث عنه طالما كان ناتجًا من عقل وبغرض التكتيك ما يعني عدم فقدان السيطرة على العقل بل ربما يكون مثل هذا الفعل معبرًا عن قوة وقدرة عقلية مؤثرة بشكل كبير في تحقيق نتائج لصالح من يستخدمها، وهذا ليس في سياق موضوعنا لكن ذكرناه للتفرقة بين هذا الغضب المفتعل وذاك الذي يتسبب بفقدان السيطرة على العقل حتى لا يلتبس على القارئ مثل هذا الاختلاف.
بعد كل ما ذكرناه بشأن الغضب نتسائلُ: هل يا ترى المطلوب منا أنَّ لا نغضب مهما كانت الأسباب؟ الجواب: طبعا ليس المطلوب أنْ لا نغضب بتاتًا، لأنَّ بعض المواقف تتطلب منا غضبًا لكن في الحدود المسموحة والمعقولة، ويجب أنْ يكون مثل هذا الغضب مُسيطرًا عليه، وبإدراك تام من العقل، كأنْ نغضب لله أو نغضب نصرة للمظلوم أو نغضب لانتهاك القيم والمبادئ، فمثلُ هذا الغضب أستطيع أنْ أسمِّيه من الغضب المحمود، طالما كان تحت السيطرة التَّامَّة، ويؤدي لما يرضي الله سبحانه، ولا يتجاوز حدوده، فها هو الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام يضرب لنا أروع الأمثلة في غزوة الخندق، عندما سقط عمرو بن ود أرضًا وهمَّ الإمامُ عليه السلام بقتله فقام بالبصق في وجه أمير المؤمنين عليه السلام، مما جعله يتراجع عن قتله، وتمّهل قليلا ثمَّ رجع له بعد برهةٍ وقتله، وعندما سُئل عليه السلام عن فعله هذا، قال: أردتُ أنْ أقتله حمية لله لا لنفسي، ما يعني أنَّ الإمام عليه السلام كان في غاية الامتثال للقيم والأخلاق والتعاليم الإسلامية في لحظات يعسر فيها التحلي بمثل هذا المستوى من الوعي واليقظة، ناهيك عن القدرة الفائقة على الانضباط السلوكي، فهذا الموقفُ المضيء يعلمُنا فيه الإمام عليه السلام أروع الأمثلة على الغضب المذموم والمحمود في آن واحد، وها هو القرآن الكريم يذكر لنا أيضًا غضب نبي الله موسى عليه السلام لمَّا رجع إلى قومه ووجدهم عاكفين على عبادة العجل بعد أن أضلَّهم السامري، قال تعالى (فَرَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا) طه:٨٦، وهو بلا شكٍّ من الغضب المحمود أيضًا لأنه غضبٌ لله وفي حدوده.
أهمية التحكم بالغضب في الإسلام
لكن بالمقابل نرى موقفًا آخر في إحدى معارك المسلمين، يرينا للأسف انفلاتًا وعدم سيطرة على النَّفس وابتعادا عن الإلتزام بالتعاليم الإسلامية، عندما انفرد أسامة بن زيد باليهودي مرداس ابن نهيك الفدكي وطعنه طعنة أدتْ إلى مقتله بعد أنْ شهد الشهادتين في آخر لحظاته، فلمَّا رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وآله أخبره بذلك فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله: قتلتَ رجلا شهد الشهادتين؟ وعاتبه بشدة قائلا له: فهلَّا شققتَ عن قلبه؟ لأنَّ أسامة تعذر بأنَّ الرجل أراد أنْ يتقي الموت عندما نطق الشهادتين، وبدورنا نتسائلُ هنا: ما الذي جعل أسامة بن زيد يخالف هذا المنطق لولا أنَّه غَضِبَ وفقد السيطرة والقدرة على تحليل الموقف بطريقة موضوعية وأخلاقية تدفعه للتروي، وبأقل تقدير يأخذ الرجل أسيرًا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله، إذن الغضب يفقد الإنسان الحكمة والصواب وقد يجعله يتجاوز حدود الله، فهذا الموقف الذي صدر من أسامة آلم قلب رسول الله صلى الله عليه وآله كثيرًا.
من جهة أخرى نرى رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: “ليس الشديد بالصرعة، إنَّما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب“، وهذا الحديث يصف لنا بدقة ما نتحدث عنه، إذ يذمُّ فيه الانفلات عند الغضب ويمدح الانضباط، وكأنه يقول إنَّ البطل الضرغام هو من يستطيع أنْ يضبط نفسه وقت الغضب، مما يجعل هذا المنطق أحد مفاهيم الإسلام التي تشكّل عقلية المؤمن فتجده يكظم غيظه دون النظر إلى الأنفة أو الذلة، فليسي النفس الأمارة بالسوء هي من تحدد له كيفية معالجة المواقف ومعايرها المنزوعة من القيم الإسلامية بل تعاليم الدين هي من تمنحه الفخر والاعتزاز رغم أنَّ الموقف قد تشوبه الذلة ظاهريًا إلا أنَّ جوهره عزة ومنعة لأن قرار الانضباط لم يصدر من خوف أو خنوع إنما صدر امتثالا لأمر الله.
وفي مقابل الغضب فقد امتدح الإسلام كظم الغيظ وقال الله في محكم كتابه (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ) هود:٧٥، ولو أردنا الاستشهادَ بما جاء به الدين في شأن الغضب والحلم لربما نحن بحاجة إلى مساحة شاسعة لاثبات ذلك لكن المقام لا يكفي لكل ذلك، ونكتفي بهذا القدر الذي باتتْ معالمُهُ واضحة للقارئ الكريم، وقاكم الله شر الغضب ورزقكم الحلم والإنابة له. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.