نحن أمام طريقين أحدهما حقيقيّ وهو يذهب بنا للعمق ويصعد بنا في سُلَّم الكمال؛ لأنه يكشف لنا عن مدى اتصالنا بالمطلق غير المتناهي، والثّاني يحاول أن يحل محل الحقيقة، وهو زائف وسراب، ينحدر بنا للدرك الأسفل؛ لأنه يعمي بصيرتنا.

ولكل واحد من هذين الطريقين نوع من الخواطر والإشارات التي تُحفِّز مشاعرنا، وتطلق ردود فعلنا، وإنَّ سلامة قلوبنا وخلوِّها من الاضطرابات رهين بالتَّعامل الصَّحيح مع تلك الخواطر والكلام النَّفسيّ، فهذه الهواجس تتوارد على القلب على شكل أحاسيس وجدانية، أو تمرُّ بالذِّهن على شكل آراء وتصورات، وفي الكثير من الحالات نشاهدها وكأنما فلم يعرض في دماغنا، أو صوت يتردد صداه في مسامعنا.

حديث النفس الذي لا يصمت:

نحن دائمًا في حديث نفس داخلي لا يكاد يهدأ في النهار حتى يتحول إلى طيف أحلام يشغلنا عندما ننام ربما يعبر عن نفسه في صورة أحلام يقظة، أو يتنفس على شكل أضغاث أحلام، وربما إن وقعنا تحت ضغط شديد ينبهنا لحالة من الفراغ المطلق في الداخل، وميل لعدم الوجود يتفوق على الرغبة الغريزية للاستمرار بالعيش، وقد تسيطر تلك الهواجس والخواطر لتعبر عن نفسها على شكل عبارات مريرة “أنا أمقت ذاتي وأكرهها“.

قد يولد الضغط الشديد لهذه المعاناة شعورًا عميقًا في الذات بضرورة النّهوض ضد هذه الهواجس والخطرات التي تتوارد على القلب والتي تنبع من الخيال والوهم، إنها من يصنع الذات الزائفة، وهي ما يشوّش علينا حالة الركون لله ويفوّت فرص الحصول على نشوة السكينة والاطمئنان، في اللحظة التي نوجد ثغرة وسط فوضى الأفكار نستيقظ لحالة السلام الداخلي ونكتشف النبع الفياض الذي نفتش عنه في عمق الروح.

تمرين “شهود الباطن“:

يمكنك إجراء هذا التمرين لمدة في نفسك، ميِّز بين قلبك وعقلك، القلب يكون فيه: حزن، فرح، ضيق، انشراح (يعني مشاعر). والعقل يكون فيه: خواطر فطرية، صور ذهنية، خيالات ترتبط بالماضي والمستقبل.

١ـ خصص وقتًا، راقب الشعور الذي يكون في قلبك، ما هو منبعه؟ أنت متضايق أو فرح راقب فرحك أو ضيقك من دون أن تقوم بشيء، من دون أن تسأل ما السبب، من دون أن تفكر حوله، فقط راقب مشاعرك، اجعلها تحت ضوء الوعي، كن أنت الشاهد لمشاعرك.

٢ـ خصص وقتًا آخر لمراقبة الخواطر، ما هي الأفكار، كيف تنتقل من دون إرادتك من غصن إلى غصن، راقب طائر الخيال الذي لا يتوقف، فقط ركز على أن هناك أفكارًا وصورًا ذهنية في حركة مستمرة ومن دون اختيارك.

الخطوة الأولى: ربما يعد التمرين السابق أول خطوة واعية نخطوها في شهود الباطن، وكأن لسان الحال يقول: “ها هو شيء يحدث أمامي، وها أنا أشاهده وأصغي إليه، فقط راقبه من دون أن تؤكد أنك الشيء الذي يخضع للمراقبة، فأنت لست الخواطر الذهنية ولست المشاعر، هي أمور تحصل وأنت تراقبها.

الخطوة الثانية: ستعرف أنك غير المشاعر والخواطر الفكرية التي تمر على قلبك وعقلك.

الخطوة الثالثة: ستكتشف أنه لا المشاعر ولا الخواطر والأفكار يمكنها العمل تحت ضوء الوعي والرقابة، فبمجرد أن تسلط الوعي على اللاوعي يرتبك اللاوعي ويفقد قدرته وقوته على التأثير.

الخطوة الرابعة: حينما يتراجع لاوعيك تتصل للوهلة مع ذاتك الواعية، تبدأ تجربتك الروحية، فقد تمكنت الروح من إدارة ما يجري في القلب (المشاعر) والعقل (الأفكار) وبأسلوب بسيط جدًا هو المراقبة (الشهود والشهادة) من دون حكم، من دون لوم ومعاتبة، عندها ستنزل عليك السكينة، وتشعر بانشراح الصدر، وحالة من الطمأنينة.

وسنفهم بوضوح أن كل هذه الخواطر غير الخاضعة لوعي الروح هي مجرد رسائل تشوش علينا صفاء القلب والعقل، وأنها تجعلنا غير قادرين على الاستفادة القصوى من مواردنا، وربما ينتاب أحدنا شيء جديد كأنه يتصل بالفيض الذي ينتمي له جميع الأشياء، حالة من البهجة والفرح التي يعرف بوعي ووضوح مصدرها، وبكل تأكيد ليست هي مثل المشاعر اللاوعية، وليس فيها غشاوة أبدًا. لا يشوبها أي فقدان للوعي، وربما تجعلك هذه الحالة تبصر التعلق بالله.