سرٌّ هيمنة الوسواس
يكمن سرُّ الوسواس في أنّه يستطيع جعلك تفكر، وتشعر، وتعمل أيَّ عملٍ بدون وعي، يجعلُ دماغَكَ نَشِطًا ولا يهدأُ، ولأنَّهُ يتحرك باستمرار فسيكون القلقُ هو العاطفة المهيمنة، وفي الرأس ستجد فوضى أفكارٍ وأوهامًا وأضاليلَ.
اللَّحْظَة الَّتي تستطيع فيها الانفصال عن تفكيرك ومشاعرك وسلوكك، يُمكنُكَ الرؤية من فوق وبشكل أعمق، وإذا تمكنتَ من إيجاد ذلك الانفصال سوف تدركُ الوهم بوصفه وهمًا.
في الواقع الوسواس لا يستطيع العملَ تحت ضوء الوعي بل هو “خَنَّاس” قال تعالى:” مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ”، لأنّه ينبسط على القلب فإذا ذُكر الله تعالى خنس وانقبض، وإذا غفل الإنسانُ انبسط على قلبه، فهو يتحرك كاللص، ويعملُ دائمًا تحت جناح الظلام في بقعة اللاوعي.
لِتَنعتقَ عنه عليك أنْ تسموَ فوق الأفكار، وأنْ تدركَ أنَّك لستَ تلك الصور الذهنية الّتي تجوبُ فضاء روحك، ما أسمعه ويحدثني “ليس أنا” ليس هو حقيقتي، أنت أعمق من ذلك، معضلتك الأساسيَّة هي التَّفكير من دون وعي أعني التفكير بشكل آلي ودون مراقبة.
طبعًا لن يعتقك الوسواس بسهولة، لأنَّك إذا ما أقصيت مضمونًا من التطابق بينك وبينه، فهو سيجد بسرعة مضمونًا آخر، لأنَّه لا يهمُّهُ المضمون، إنَّه يعتاش على البُنْيَة الفكريَّة الَّتي تَقلق وتَتوتر وتَخاف وتَتألم، فإنْ كانتْ الأفكار هي الدبابير الّتي تلسع، فإن الخوفَ أو القلقَ هو عشُّ تلك الدبابير، ولن يتنازلَ الوسواسُ عن عِشِّه الّذِي هو الواقع المفهوميُّ والتَّصورات الذهنيَّة المَرَضِيَّة وغير المُتعارفة والّتي تنمو بشكلٍ سرطانيٍّ.
بداية التَّعافي
ولكن بداية الشِّفاء هو تركُ التَّماهي مع التَّصورات الذهنيَّة اللاطوعيَّة، أيْ أنْ تجعلَ بينك وبينها مسافةً، بحيث لا تتصرف بشكلٍ آلي، إنَّ لحظات الصَّمت عن التَّفكير ولحظات التَّسليم المطلق للحُكم الشَّرعيِّ وللحِكمة، تؤدي إلى تداعي بعض المضامين والسُّلوكيَّات الإكراهيَّة وخفُوتِها وتلاشيها، حينها تجد فرحة الرُّوح، البسيطة، والعميقة.
غذاء الوسواس
ليستحوذ الوسواس على أحد، يحتاج أنْ يوفِّر لنفسه بيئة حاضنة، وأنْ يجد غذاءه المفضَّل، فبيئتُه هي الإحباط وغذاؤه هو الألم، ولأنَّه يشحن طاقته من الإحباط والتذمُّر والامتعاض، فهو بأمسِّ الحاجة للطقوس الَّتي توفِّر له كلَّ ذلك.
يُحِبُّ الوسواس اللَّعب؛ فما عليه إلَّا أنْ يرسِلَ إشارةً ما إلى العقل، ثُمَّ تبدأ لعبة كرة التِنس، إذا اخترت أنْ تفعل ما يريد فسوف تُكرر، أو تُعيد، أو تُبطئ، أو تَخاف وتنسحب، أو ترتبك حتى تنهار، وإذا قرَّرت المُمانعة فعليك أنْ تتوتر وتتألم، وفي كلا الحالين هو يستمتع باللُّعبة على حسابك؛ لتتجاوزه عليك عدم التَّفاعل وعدم التَّحرك من موقع ردَّة الفعل، وبلُغة واضحة (تَحْقُرُه).
ليس المطلوب منك أنْ تكتب قصته الَّتي يُحِب، ما يُمْكِنُك فعله هو أنْ تقوم بـ (لا شيء)، أنْ تكفَّ نفسك عن التَّجاوب مع إشاراته، حتَّى يجوع ويتراجع، سيعود للوراء قليلًا، سينكمش لبعض الوقت، ثُمَّ سَيُعاود طَرق أبواب قلبك من جديد؛ لكنْ في كلِّ مرة يُمْكِنُك رصده والتَّعرف عليه يزداد ضعفًا.
تمرينٌ آخر لابدَّ منه: وهو أنْ تملأ يومك بالمشاعر الإيجابيَّة، بالحيويَّة والنَّشاط، فتُوجِد لنفسك بيئةً صحيَّةً مشجعةً: الرِّياضة القويَّة الّتي فيها جُهد وبهجة مع زملاء، والعمل الهادف المستمرُّ، والمساهمة في البِرِّ، كلُّ هذه الأمور تُسبب عُسر هضم للوسواس؛ لأنَّ الوسواس لا يُمكنه أنْ يهضم الإيجابيَّة.
الوسواس قاطع طريق
يَهدف الدِّين إلى اليقظة الرُّوحيَّة، وهو يأتي لأجل ذلك بتشريعات وتعاليم في خدمة الحقيقة المطلقة، أمّا الأفعال والأفكار والشُّعور ليست هي المقصودة بالذات إنَّما وظيفتها الإشارة فحسب، والحقّ إنَّما يُعرف حينما تتصل به، حينما تَحضر عنده هويُّتك وروحُك.
لتكون متدينًا عليك أنْ تكون متَّصلًا بالله من عمق روحك، والوسواس يقطع عليك الطَّريق، ويجعلك تعيش في مستوى القشور؛ ليبعدك عن اللُّب وعن روح الشَّريعة ومقاصدها، والعجيب في الأمر أنَّ قاطع الطَّريق هذا لا يمكنك هزيمته من خلال مهاجمته، هو يريد منك أنْ تدخل معه صراعًا.
إنَّ حالك معه يشبه ما لو كنت تُريد الذَّهاب لصلاة الجَّماعة قبل الوقت، وهناك في الطَّريق مَنْ يَكْمُنُ لك من أجل إضلالك أو تعطيلك، فإنْ وقفتَ معه تحاوره فاتك الوقت والصَّلاة، وهذا يسرُّه كثيرًا، وإنْ دفشته وأبعدته وأخذتَ تُنازعُهُ سيكون مسرورًا بقدر تعطيلك عن اللُّحوق بالجماعة، وإنْ مشيتَ على رسلك سيطمع بك في حالةٍ واحدةٍ يمكنك قصم ظهره، وهي أنْ يُحفِّزَكَ للإسراع في طِيِّ الطَّريق والذَّهاب للمسجد قبل انعقاد الصَّلاة؛ لِتأتي بنافلة أو تقرأ القرآن أو تدعو الله سبحانه.
إذنْ لِتُحقَّق نصرك عليه لا تهاجمه، ولا تُحاوره؛ ولكنْ حوِّلْهُ من تحدٍّ إلى فرصة مجاهدة النَّفس والسموِّ بها.