الوسواس
هو خللٌ وظيفيٌّ يعاني منه العقل، ولكنَّنا نجدُهُ على شكل تيار من المشاعر والعواطف القلقة، ترافقُها أفكارٌ قهريةٌ وغيْرُ طوعيَّةٍ ينتجُ عنه في الغالب سلوكٌ غير مريح.
هو صوتٌ تسمعُهُ في الرأس أو أخْيِلة وصور تقتحم عليك وجدانك، وهكذا فعلًا عرَّفتْهُ اللُّغةُ هو:” الحركة والصَّوت الخفيُّ الذي لا يُحَسّ فيُحتَرز منه، إنَّهُ الإلقاء الخفيّ في النَّفس وهو كلام يُكرَّره الموسوس عادة”.
ورغم أنَّ ما تحسُّه يشبه اليقين لكنَّه في الواقع سرابٌ لا يروِي ظَمَأً، ولا تسكن معه النَّفسُ، فكأنَّه كائنٌ طُفيليٌّ، يتغذى على ضحيتِهِ، ينخر في ثقتها بنفسها، ويعتاش على ما يسببه لها آلامٍ ومِحنٍ.
تذكروا جيدًا أنَّ الوسواسَ وقتما يتلبس الضَّحية يتحدث بالنيابة عنها، يستحوذ عليها، فتدور على رحاه قصَّتُها: “كلُّ الأحداث والذكريات، والماضي، والحاضر والمستقبل، الأفكار والمشاعر والسلوك”.
عندما ينتابك الوسواس أقصد حديث النفس، وبأيِّ شكلٍ كان: هلع، أو أفكار، أو تكرار عملن أيُّ صورة، راقبْ – فْوراً – أجهزتك الحيويَّة، وما يحصل فيها من تَغيِير: عمل القلب، والجهاز الهضميّ، والمناعة، والضغط، إذا استطعتَ ملاحظة ذلك فسوف تعي في هذه اللحظة: أنَّكَ تسبِّبُ المعاناة لنفسك.
أجراس التَّنبيه
قال تعالى “إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ”، في لحظة ما ستَدقُّ أجراس التَّنبيه في وجدان المبتلى بالوسواس، يحصل ذلك حين تتنبه الرُّوح لحقيقة أنَّ بقاءَهَا بات مهددًا بمشكلات لا تُعدُّ ولا تُحصى، إنّها الرُّوح التي تعي تمامًا أنّ طاقتها تمَّ استنزافها بشكل لا يُطاق، وهي تعتزلُ تمامًا الحياة، لأنَّها بين خيارين: إمّا أن تُجاهد وبعنف وتقضي على ذلك الموجود الطُّفيلّي الَّذِي يتغذى على طاقتها، وإمّا تستسلم له تمامًا فتهلك.
حينما يُدرك الوسواسيّ هذه الحقيقة، وهي أنَّ الحالة العقليَّة الطبيعيَّة عنده مشوَّهةٌ بعيبٍ أساسيّ في الوعي، يُمكن عندها إِحداث تغْيّر جذريّ، التَّغيُّرُ الّذِي يبدأ من اليقظة والوعي لكلِّ أنواع التَّضلِيل الّذِي يُمارسه الوسواسُ على العقل، وملاحظة كم أنَّ الأنا المُتَقبِل للوسواس في ذواتنا مُشبَّعٌ بالمرض.
علينا التَّنبه دائمًا لهاتين الحقيقتين
١- أنَّنا نخضع لأمر الوسواس الكائن الطُّفيلي المتلاعب بعقولنا عبر الخلل الوظيفي (إعادة تشويه الكيمياء الحيويَّة فينا).
٢- أنَّنا بطقوس الوسواس نتقبل ذلك التلاعب ونتماهى معه، ونُطابق بين حياتنا وبينه.
اليقظة وتكثيف الوعي
وهنا يأتي دور الدين الّذِي يهدف لتكثيف اليقظة والوعي، وإشعال ذلك النور في الداخل وبدء الحركة في الرُّوح، لأنَّ قدَرَ الوَسوَاسِ هو العشعشة والنُّمو في غياب البصيرة، وقدَرُهُ أنْ ينهارَ من الدَّاخل حينما يسطو ضوءُ الْوَعي، والتَّحدي يكمن في إعادة بنية العقل من جديد؛ لأنَّ تطنيش (تجاهل) الصَّوت الّذِي يضُجُّ في الرأس ويستمر بالعويل عند عدم التَّماهي معه يُعد عملًا ضخمًا.
يهدف الوسواس إلى
أوَّلاً: إبعادِكَ عن العمق، عن حقيقتك عن جوهرك وكينونتك، هو يستحوذُ عليك عن طريق التَّخاطر، وفي الواقع هو يجعلُك مهووسًا بالفكرة، يستعملك الخيال بدل أنْ تستعمله، إنَّه بالتَّحديد يُوجد حولك الكثير من الفوضى الَّتي تعميك عن الحقيقة، هذا في المرحلة الأولى، يجعلك مشوَّشًا بشكلٍ كلِّي، ثُمَّ سُرعان ما يسلِّطُ عليك الوهم ليجعله كاليقين، والعجيب أنَّ بدنَكَ يبدأُ الاستجابة له والتَّماهي معه، هو يُبدل من كيمياء دماغك، ويتصرف في النَّواقل العصبية، ويزرع في فؤادِكَ الخوف، ويصيبك بنوبات متتاليَّة من التَّوتر.
ثانياً: عزلك عن مُحيطك، ففي الوقت الّذِي ترى أنت وتحس بأشياء لا يشعر بها الإنسان العرفيَّ، يتعجب المحيطون بك، من غريبِ سُلوكِكَ، فهو غيرُ مفهوم لهم، هذا الشّعور بالغربة هو أحد ثمار الوسواس؛ لأنّه يدفعك دفعًا نحو التّقوقع والانطواء على الذات؛ لأنَّه يعزلك وكأنَّك مريضٌ بالجرب، فهو يقطتعك من الحياة.
ثالثًا: سلخك عن هويتك، ونسبتك إليه إنّ الوسواس يَسِمُك باسمه، ويسعى دائمًا لتُطابق نفسك وفق أجندته، في حالات يبدأ الوسواسي بحبِّ مرضه ويتخذه عنوانًا لشخصيته، فهو يقول: “أنا وسواسي” رُبَّما يكتسب بذلك بعض العطف والشَّفقة.