الإيذاء العاطفي ١٢: لماذا شاعت الإساءة ؟ | سكينة

الإيذاء العاطفي ١٢: لماذا شاعت الإساءة ؟

لماذا شاعت الإساءة

السؤال المتقدم ملحٌّ وبحاجة لإجابة وافية، فلذلك سوف تتحدد الأسباب من خلال القناط التالية:

أولًا: لأننا تجاهلناها 

الإساءة العاطفية هي مثل الظواهر السلبية المتفشية، ولها بالمقاييس الاجتماعية إدامة ذاتية، وتنتشر بحيث يمكن للجميع أنْ يعاني منها بل وتخترق جميع زوايا حياته وعلاقاته، إنَّ تجاهلنا لتداعيات ونتائج وتأثيرات الإيذاء العاطفي هو جزء من المشكلة في الواقع.

إنَّهُ أمرٌ شائع للغاية أنْ تكون الإساءةُ جزءًا من المشهد الثقافي والاجتماعي والشخصي، نمارس السلوك ويمارسه الآخرون علين، ويمكن لأي شخصٍ أنْ يتخذ إسلوب الإيذاء العاطفي سلوكًا اعتياديًا طالما لا توجد معارضة قيمية واجتماعية، قد يتحدث الجدُّ بطريقةٍ فظّة فيها كثيرٌ من الإهانات وعدم الاتزان وخروج عن الحدود الشرعية والآداب الإسلامية إلى ابنه والذي هو قد صار أبًا، ثمّ يقوم الأب ليتحدث بهذه الطريقة إلى أبنائه، والذين بدورهم يتحدثون بهذه الطريقة إلى أطفالهم، سلسلة من السلوك المشين تمتد حلقاتها إلى جيل بعد جيل، نعتقد دون وعي أنّ تجاهلَ هذا الإيذاءِ العاطفي هو طريقةٌ ناجعةٌ لوقفِ نزيف جرحها النفسي العميق، في حين أنّ نتائج هذا التجاهل قد تكون كارثية بمعيار علمي، ومميتة بالمعايير الطبية، وهي بلا شك سبب رئيس لمشكلات أسرية واجتماعية، فتكون من المحظورات والمنكرات بالمعايير الشرعية.

ثانيًا: لقد تعلمنا أن لا ننكر ذلك

الكثير من أساليبنا في التعامل مع الطرف الآخر هي في حقيقتها أساليب لا تستند إلى قواعد علمية أو أساليب تربوية أو قد انطلقت ضمن دوائر معرفية وفق نظريات وضعها مختصون، بل هي نتاج خبرات متراكمة استخدمها جيلٌ سابقٌ ليستفيد منها جيل لاحق، وقد يتوهم أحدُّنا بوعي أو دون وعي أنَّهُ يتبع العادات والتقاليد وأساليب تربوية وقد تبدو  أنَّها ناجحة،  وأنًّها خرّجتْ أجيالا من الرِّجالات المتميزة والمبدعة، ودائمًا ما يذكر ذلك ويفخر به على أنه الإسلوب الأنجح والأفضل والأمثل في التربية وأنّ الآباء قد درجوا على التربية بتلك الأساليب والصور النمطية، ولكن لم  يعي أو يفهم أثر بعض تلك الأساليب الفظّة والغليظة.

فاستخدام العصا، وعدم السماح للأطفال بالتحدث في المجالس، والصراخ ، والتنبيهات بصوت عال، والشتم والسب، والاستهزاء، واستخدام الألفاظ البذيئة، واختيار الزَّوجة للرجل دون إرادته، وكثير من الأساليب القديمة التي جرت مجرى النظام والقانون على أنها مقدسٌّ لا يمكن المساس به، واستمرّتْ تلك الأساليب في بعض العوائل والمجتمعات ليومنا هذا، كل تلك الصور المؤلمة هي نوع من أنواع الإساءة والإيذاء، هي سلسلةٌ طويلةٌ تمتدُّ في كل زاوية من زوايا حياتنا، في الأسرة والعمل والمدرسة وفي الطرقات ودور العبادة وفي كل مكان، وفي الوقت الذي خرّجت تلك الأساليب الأشخاص المتميزين حسب توهمه، هي نفسها الأساليب التي تعكس صورة بالية من صور الإساءة ولذلك انتجتْ المتخلفين والمقهورين والمرضى النفسانيين، وأصحاب العقد، والمنكفئين والمنعزلين والخجولين والمتنمرين، والحاقدين على مجتمعهم، كل ذلك كان نتاجًا لعدم تصحيح مسار التربية أو الإنكار لتلك الأساليب المسيئة.

عدم إنكار طبيعة وحقيقة الإساءة العاطفية والتأثير السلبي لها يسهم بشكل مباشر أو غير مباشر باستمرار الإيذاء لينتقل بإرادتنا إلى أشخاص آخرين، وفي حين قطع المجتمع شوطاً طويلاً نحو جعل مثل هذا السلوك العدواني ظاهرياً غير قانوني، إلا أنه غالباً ما غض الطرف عن أشكال القمع في الأسرة والذي لها تأثيرات سلبية كبيرة، وفي حين أنَّ المنظمات والمؤسسات الحكومية وعلاقات العمل في مختلف المواقع قد خضعتْ للتدقيق والتقنين، فقد اعتُبرت العلاقة الأسرية علاقة خاصة ولها ظروفها الاستثنائية باعتبار  أنّ منزلُ أي رجل هو قلعته، وله ما يشاء أنْ يضع من أحكام وقوانين.

نحن بحاجة لمراجعة أساليب التعامل وتنظيم العلاقات داخل الأسرة بما يتوافق مع أدبيات الإسلام في هذا الاتجاه والقوانين الشرعية لتنظيم العلاقات الأسرية لجميع أفراد الاسرة بدءًا بالأب والأم وانتهاءً بجميع بالأبناء ذكورًا وإناثًا، ونجد أنّ من المؤلفات المهمة في هذا الإتجاه رسالة الحقوق للإمام سيد الساجدين زين العابدين عليه السلام، فقد وضعت المناهج الحيَّة لسلوك الإنسان وأساليب التعامل بدقة متناهية يكفل الحقوق لجميع أفراد الاسرة، كما وتسهم هذه الرسالة في تطوير حياة الإنسان، وبناء حضارته، على أسس تتوفر فيها جميع عوامل الاستقرار النفسي، إلى جانب بناء الأسرة وفق منهج علمي جامع للمدارس الفكرية والنفسية التي كتبت في تنظيم شئون الأسرة وبيان علاقة أفرادها بعضهم البعض، وقد كتب الإمام عليه السلام هذه الرسالة الذهبية و أتحف بها بعض أصحابه، فهي بحق دستور تربوي أخلاقي وضع قواعد وأسس العلاقات الأسرية بدقة متناهية ورصينة، فلا نغالي إنْ قلنا أنّها البديل الرائد في علم نفس الأسرة.

ثالثًا: لقد تعلمنا أن نقبل ذلك

بدأنا فقط في الآونة الأخيرة أنْ نلتفت إلى الجوانب العاطفية والوجدانية والنفسية، فقد تم الاعتراف بها وأعطيت قيمة وأنّ لها تأثيرها في بناء ونمو الشخصية وهي زاوية من زوايا الإتزان الشخصي ما يعكس صورة مشرقة من صور التربية الروحية السليمة في عالم يتطلب الكثير من العواطف، كانت المشاعر حسب الرأي الشاذ للضعفاء وللنساء والأطفال، كان يعتقد أن جزءًا من عملية النضج هو تعلم قمع مشاعر المرء، ولهذا نحن لا نترك مساحة للتعبير عن المشاعر؛ ففي ذلك حسب ثقافتنا خروج عن المألوف وتعدٍ على قيم الفضيلة والرجولة، فالطفل لا يعبّر عن مشاعره بالبكاء فذلك محرّم عند بعض الرجال والنساء، والطفل لايستطيع أن يشتكي لوالديه ففي ذلك تجاوز وعدم احترام ويدل على الضعف والدّلال الزائد، فالعاطفة هي محطة يجب تجاوزها وأنَّ العصي والحجارة حسب المقولة المشهورة قد تكسر عظامي، ولكنّ الكلمات لايمكن أن تؤذيني.

الإساءة اللفظية هي أقسى من الإيذاء الجسدي في أحيان كثيرة، وقد نجد دواءً سريعًا للكثير من الإساءة الجسدية ولكنّنا قد نحتاج لسنوات كثيرة لتجاوز آثار وتداعيات ونتائج كارثية لكلمة، نعم كلمةٌ قد تغير مسار إنسان ناجح متميز  ليتحول بعدها لإنسان فاقد للشعور، مزدرٍ لنفسه، متحطم الآمال، لايثق بنفسه أبدًا، غير قادر على التكيّف مع محيطه، كسول، متذمر، ضعيف الشخصية، فاقدٍ للأمل.

إنّ ضحايا الإساءةِ العاطفيةِ هم أكثر الأشخاص ألمًا وضيقًا، قد لا يعبرون عن مشاعرهم إلا أنّ تأثير الإيذاء العاطفي يأخذ مساحةً شاسعةً من جهدهم وتفكيرهم وعلاقاتهم وطريقة عيشهم، نعم تخلّف الكلماتُ المؤذيةُ نتائجَ مدمرةً على جميع الأصعدة، ومن تلك الصور:

١- انخفاض احترام الذات.

٢- الحزن.

٣- القلق.

٤- الانسحاب من الحياة الاجتماعية.

٥- تغيرات الشهية.

٦- مشاعر العار والشعور بالذنب.

٧- الخوف.

٨- العزلة عن العائلة والأصدقاء. 

وكما هو معلوم فإنّ آثار الإيذاء العاطفي ليس كونها آثارًا لحظية آنيّة فحسب، بل إن ارتداداتها تنتشر في مساحات كبيرة لتغطي زوايا عديدة، وقد تكون في محطات حياتية تثير كثيرًا من علامات التعجب وعدم التصديق، نعم تمتد آثار الإيذاء العاطفي إلى جوانب عديدة من حياة الضحية، مما يؤدي إلى ضعف في الأداء، فعلاقة مسيئة واحدة شديدة الضرر قد تؤدي إلى تصرف الضحية بطريقة غير مُرضية ضمن علاقات صحية أخرى، وتنتقل بصورة عشوائية في سلسلة طويلة لا نهاية لنتائجها وفواعلها في نفس وسلوك الضحية، وقد يصبح الفرد المعتدَى عليه منسحبا اجتماعيا أو يخشى من الثقة بالناس، بل قد تنعدم تمامًا، مما يسبّبُ في قطع خطوط التّماس بينه وبين الآخرين وهو خلاف الفطرة السليمة، حيث يتعارض مع كون الإنسان  اجتماعيًا بطبعه، وميله إلى بني جنسه،  وفي حالة الأطفال الذين يتعرضون للإيذاء والإساءة العاطفية، قد تنعكس المشكلات في الحياة المدرسية مع زملائه والمعلمين والمجتمع المدرسي بشكل عام،وقد يعاني الأطفال الذين تعرضوا للإساءة العاطفية أيضًا من اضطرابات في التعلم، مثل عسر القراءة وصعوبة القراءة) أو ديسجرافيا( صعوبة الكتابة، والتي يمكن أنْ تتأثر بعدم التركيز المرتبط بالقلق الناجم عن سوء المعاملة، يمكن أن تتطور اضطرابات التعلم نتيجة للصدمة العصبية، والتي ناقشناها كأثر جانبي محتمل للإساءة العاطفية، وقد تظهر قضايا احترام الذات لدى الأطفال في انخفاض الفعالية الذاتية كالثقة في قدرة المرء على أداء المهام.

وبالمثل، قد يعاني البالغون الذين يتعرضون للإيذاء العاطفي من مشاكل في العمل، وهي بيئة تعج بالفعل بضِغوط متأصلة خاصة بها؛ وقد تنتقل نتائج الإساءة العاطفية إلى حياة منزلية مسيئة وعلاقات متوترة يمكن أن يؤدي الأمر إلى عدد لا يحصى من المشاكل.

رابعًا: لقد تعلمنا أن نديمه

كما هو الحال مع أنواع أخرى من سوء المعاملة، يمكن أن يكون للاعتداء العاطفي إدامة ذاتية، والسبب في ذلك هو قبول استمرار هذا الإيذاء دون التحرك لإنهائه أو إيجاد حل سريع لحالة نفسية شديدة يفرضها المبتز على الضحية قسرًا، وقد ذكرنا سابقا أنّ الضحية هو أول الخطوط القادرة على إنهاء الإيذاء العاطفي من خلال خلق المصدّات والسواتر القادرة على صدّ أي هجوم من قبل المبتز حيث أنه يحاول بكل الطرق التلاعب بعواطفك وأحاسيسك وتحويلها لفرص يتحينها للانقضاض عليك، ولذلك فتعبيد الطريق من قبلك بالنسبة له هو الطريق الأوحد للوصول إلى تحقيق أهدافه السيئة، ومن هنا فإن قطع الطريق عليه هو الحل لعدم قبول الإساءة، فأنت تقبل الإساءة، وتنكر تأثيرها، وتتجاهل نفسك الداخلية كثيراً لدرجة أنه إذا لم تكن في حالة تأهب وحذر، ينتهي بك الأمر إلى مواصلة الدورة داخل علاقاتك الخاصة، إمَّا أن تأخذ مرة أخرى دور المعتدى عليه في علاقتك الجديدة أو تقوم بتبديل الأدوار وتصبح المعتدي، ومن هنا فإن عدم قبول إدامة الإساءة ينبغي أن يكون الشعار الأبرز لمن يطمح في حياةٍ هانئةٍ سعيدةٍ، وهذا المشهد ينطبق على جميع أنماط العلاقات الإنسانية في جميع الأوقات.

شارك المقال:
هل وجدت هذا المقال مفيدًا ، يمكنك الاشتراك لتصلك مقالات مشابهة
مواضيع ذات علاقة
كيف تتخلص من التوتر

كيف تتخلص من التوتر والإجهاد نصائح ج٢

مدمن خمر - A man is holding a rosary, reaffirming his faith.

من مدمن خمر إلى حاج

علاج الغيرة-A confident person's hand holding a heart shaped head with a heartbeat on it.

علاج الغيرة : الغيرة العاقلة

القرار الشجاع- Two magnets on a pink surface.

القرار الشجاع

الإساءة العاطفية

الإيذاء العاطفي ٣: تقييم الإساءة العاطفية

الإجهاد والتوتر

الإجهاد والتوتر ١ : الأنواع والعلامات

الإيذاء العاطفي ٨: كشف الإساءة وتشخيصها | سكينة

الإيذاء العاطفي ٨: كشف الإساءة وتشخيصها

مهارات الحياة ٤: الاساس البيولوجي للتواصل | سكينة

مهارات الحياة ٤: الاساس البيولوجي للتواصل

هل تكتب مقالات؟

تستطيع الكتابة لمساعدة الآخرين، اكتب لنا و سننشر لك مع الاعتبار لسياسة كتابة المقالات التي نتبعها

Survey
Interested in reading articles
Articles Writer