والسؤال الذي يحتاج إلى إجابة دقيقة هو: هل يمكن معرف الكمال الحقيقي للإنسان بالتجربة؟ والجواب: ابتداءً قد يتصور البعض أنّه يمكن معرفة كمال شجرة أو حيوان عن طريق التجربة، فإنّه يمكن معرفته بالنسبة للانسان ولكن، أدنى تأمّل يوضح أنّ الأمر ليس بهذه السهولة.
أوّلًا: لأنّ النباتات والحيوانات من حيث الكمالات الوجوديّةّ هي في درجة أدون من الإنسان، فيمكن للإنسان أنْ يعرف كمالاتها ويدرسها، في حين لا يمكن للفرد العادي الذي لم يبلغ الكمال الحقيقيّ معرفة الكمالات لوجودية للانسان.
ثانيًا: إنّ كمال أيّ نوع من أنواع النباتات والحيوانات له حدٌّ معيّن يمكن تجربته ومعرفته بكل سهولة، إذْ ليس هناك فروق بين أفراد نوع واحد منها خلال قرون، من حيث نوع الكمال والحدّ النهائيّ له، فإنّه بملاحظة ودراسة عدد منها يمكن الاطمئنان إلى أنّ كماله النوعيّ هو ما أُدرِك لا غير، فكمال شجرة التفّاح يكمن في إعطائها ثمرةً لها طعمٌ ولونٌ ورائحةٌ خاصّة، وفي حجم معيّنّ، وكمال النَّحْلة في أن تعيش بنظام وتهيِّئ سائلًا حلوًا وهو العسل.
ثالثًا: إنّ ما يقبل التجربة مباشرة مباشرةً هو الأشياء التي تقبل الإدراك الحسّيّ. أمّا الكمالات الروّحيّةّ والفضائل المعنويّةّ، فلا يمكن تجربتها مباشرةً ومعرفة موازينها، ولو قلنا إنّ آثار الكثير منها ممّا يقبل التجربة إلى حدٍّ ما، فإنّ معرفة منابعها النفسيّة التي انطلقتْ منها هذه الآثار وتقييم كمالها ممّا لا يقبل التجربة.
آراء الفلاسفة حول كمال الانسان
- الكمال الإنسانيّ يكمن في أكبر تمتّع من اللذائذ الماديّةّ، وللوصول لذلك تجبُ الاستفادة من العلم لاستثمار المنابع والثروات الطبيعيّة لتحقيق حياة أكثر رفاهًا ولذّةً، وهذا الرأي مبنيّ على أصالة المادّة واللذّةّ والفرد.
- الكمال الإنسانيّ هو في حصوله الاجتماعي على المواهب الطبيعيّةّ، وللوصول إليه يجب السعي إلى تحقيق رفاه الطبقات الاجتماعيّة كلّها، والفارق بين هذا وسابقه يكمن في أنّه مبنيٌّ على أصالة المجتمع.
- إنّ الكمال الإنسانيّ يكمن في رقيّه المعنويّ والروحيّ الذي يحصل بالارتياض والنضال ضدّ اللذائذ المادّيّة.
- الكمال الإنسانيّ يكمن في رقيّهّ العقلي الذي يحصل عن طريق العلم والفلسفة.
- الكمال الإنسانيّ يكمن في رقيّهّ العقلي والأخلاقي عن طريق تحصيل العلوم وكسب الملكات الفاضلة.
والرأيان الأخيران كالرأي الثالث يتنافيان مع أصالة المادّة، في حين يفترق الثالث بأنّه ينظر إلى البدن كعدوّ، وتجب مكافحته، والانتصار عليه، أمّا الرأيان الأخيران فإنّهما ينظران إلى البدن كوسيلة يستفاد منها للوصول إلى الكمال.
ومن هنا ولِكَيْ نعرف الكمال الحقيقيّ نسعى لئلّا نعتمد في أدلّتنا على الأسس الفلسفيّة التي تقبلها بعض المذاهب دون غيرها بل نشرع بالبحث من أوضح المعلومات وأبسطها حول الإنسان دون أنْ نعارض أيّ نظريّة فلسفيّة.
للإنسان غرائز وميول ودوافع نفسانيّة وانفعالات نفسيّة كثيرة تقع موردًا لبحوث الفلاسفة وعلماء النفس، ممّا أنتج العديد من النّظريّات والآراء لكنّ أسلوب بحثنا في هذه السلسلة لا ينسجم مع عرض تلك الآراء ونقدها، ونحاول التركيز والتأمّل في بعض أهمّ الميول الفطريّة أصالة والسعي لدراسة المظاهر المختلفة لها وسيرها التكامليّ ونشاطات الإنسان لإشباعها فقد نستطيع اكتشاف سبيل لمعرفة الكمال الحقيقيّ والهدف النهائيّ للإنسان؛ ذلك أنّ الميول الفطريّة هي من أشدّ القوى الإنسانيّة أصالة وعمقًا لكي ينطلق بدافع منها في تحرّكه ونهضته وسعيه، مستعينًا بالقوى الطبيعيّة والاكتسابيّة والإمكانات الخارجيّة، وطاويًا طريق كماله وسعادته.
الإدراك ومراتبه
للانسان ميل فطري للمعرفة والاطلاع والإحاطة بحقائق الوجود منذ الولادة حتى الممات، وتبدأ معرفة الانسان عن العالم بالحواس (الضوء – الحرارة – الصوت – الرائحة – الطعم)، ولكنه غير كافي لاشباع الميل الفطري والسبب في ذلك:
- لأنه بتعلق بكيفيات معينة من المحسوس ولا يشمل اللامحسوس.
- مجاله محدود بظروف خاصة (رؤية الضوء المرئي – الصوت المسموع).
- بقاؤه قصير من الناجية الزمانية (الاحتفاظ بأثر الضوء أو الصوت).
وفي سبيل المعرفة والإدراك فإنَّهُ لا ينحصر بالأجهزة الحسّيّة، فتوجد في الإنسان مثلًا قوة أُخرى تستطيع بعد انقطاع ارتباط البدن بالعالم المادّيّ أن تحتفظ بالآثار التي استلمتها منه بأسلوب خاصّ، وتعكسها في مواقع الحاجة على صفحة الذهن المدرك، كما أنّ للذهن قوة أُخرى تدرك المفاهيم الكلّيّة، وتهيّئ الذهن لحصول التصديقات والقضايا، وتيسير التفكير والاستنتاجات الذهنيّة، الأعمّ من التجريبيّة وغير التجريبيّة.
كما يستطيع الإنسان بوسيلة هذه القوى الداخليّة أن يوسّع من دائرة إدراكاته ويستنتج بعض النتائج من تجريبيّاته وإدراكاته الفطريّة والبديهيّة، وأنّ تقدّم الفلسفة والعلوم والصناعات رهين هذه القوى الباطنيّة العقليّة، ومن الواضح أنّ المعرفة الكاملة لموجود ما لا تحصل من دون معرفة علله الوجوديّة ولأنّ هذه المسيرة في إطار البحث عن العلل تنتهي إلى ذات البارئ تعالى، فيمكننا أستنتاج أنّ السير العقليّ للإنسان ينتهي إلى معرفة الله.
وقد تصوّر الكثير من الفلاسفة أنّ التكامل العلميّ للإنسان ينتهي إلى هذا الحدّ، ومن هنا تصوّروا أنّ الكمال الإنساني ينحصر في المعرفة الذهنيّة الكاملة لعالم الوجود؛ لكنّ التأمّل الأعمق في متطلّبات الفطرة يوضّح أنّ غريزة طلب الحقيقة في الإنسان لا تقنع تمامًا بهذا الحدّ من الإدراك، بل تتطلّبّ المعرفة العينيّة والإدراك الحضوريّ والشهوديّ لحقائق الوجود، ومثل هذا الإدراك لا يحصل بواسطة المفاهيم الذهنيّة والبحوث الفلسفيّة.