مقدمة
الإنسان موضوع لعلوم مختلفة كعلم النفس وعلم الاجتماع والتاريخ والطب والأحياء وغيرها، كلٌّ منها يتناوله من زاوية خاصة، وما نرمي له هنا هو البحث حول الإنسان من جهة كونه موجودًا يقبل التكامل، كما يهدف البحث لمعرفة الكمال الحقيقي وسبيل الوصول إليه، ثم الحديث عن إسلوب البحث من خلال دراسة تأملاتنا الداخلية للوصول إلى معرفة جديدة لمتطلباتنا وعناصر الجذب الموجودة في أعماقنا، والتي تسير بنا نحو الكمال، والعوامل التي تساعدنا في ذلك، والظروف التي يمكن استغلاللها للوصول إلى ذلك، ويمكن الاكتفاء لإثبات ما نقول بالمعطيات الوجدانية والبراهين العقلية البسيطة إلا عند الضرورة.
ضرورة معرفة الذات
الموجود الذي يحمل في فطرته حبّ الذات عليه أنْ يعرفَ هذه الذات، ويدركَ كمالاتِها وسُبلَ الوصول لها، وأي تغافل عن هذه الحقيقة يعد أمرًا غير طبيعي وانحراف، ومما لا يصح التغافل عنه هو معرفة الانسان لنفسه وبدئه ومنتهاه وكمالاته فهي مقدمة للمواضيع كلها.
وأكدت الأديان السماوية على معرفة النفس تماشيا مع الفطرة والعقل/ قال تعالى (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) الحشر:19، وقال تعالى (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) فصلت:53، ومن الأحاديث المعصومية الشريفة: “من عرف نفسه فقد عرف ربه” ، “معرفة النفس أنفع المعارف” ، “الفوز الأكبر من ظفر بمعرفة النفس” وغيرها.
وثمة توضيحات ضرورية تتعلق بتعبيرات ومصطلحات قد تفهم في مجالات أخرى بشكل آخر وهذه بعضها:
- معرفة الذات: معرفة الانسان من زاوية توافر الإنسان على استعدادات وطاقات تمّهد له سبيل التكامل الانساني، وعلمُهُ بنفسه علمًا حضوريًا عامًّا غير كامل.
- بناء الذات: دراسة الذات والاهتمام بها أي أن نعلم كيفيّة تنظيم مساعينا العلميّة والعمليّة، وما هي الوجهة الصّحيحة الّتي يجبُ توجيهها نحوها لِكَيْ يؤثّر ذلك في وصولنا إلى الكمال الحقيقيّ.
- العودة إلى الذات: هو أن يعرفَ الانسانُ هدفه الأصلي وكماله النهائي ومسيرة سعادته عبر التأمل في وجوده واستعداده، ولا نقصد قطع الرّوابط الوجوديّة للّذات بالآخرين وإنكار الإمكانات التي يهيّئها المجتمع والتّعاون الاجتماعيّ لتحقيق التّقدّم والتّكامل الذاتيّ.
و المقصود من هذه التعبيرات جوانبها الايجابية لا السلبية، فلا نخلط بينها وبين مفاهيم مثل: الفردية – الأنانية – الباطنية السلبية – عبادة الذات، والتي نجدها في علم النفس أو الأخلاق، ثمّة ألفاظٌ أُخرى لها معانٍ اصطلاحيّة متعدّدة، ولها استعمالات متفاوتة في العلوم المختلفة، بل قد يكون لبعضها معانٍ متغايرة، يَستعمِل معنى كل منها مذهبٌ خاصٌّ في إطار علم واحد مثل: العقل، النفس ، الشهود ، الحسّ ، الإدراك ، الخيال ، القوّة ، الطاقة ، الغريزة وغيرها.
التقيّد باصطلاح خاص يوقع السامع والمتكّلّم في ضيق لا داعي لهن ومن هنا، فإنّه لكي نعيّن المقصود من تعبير من هذه التعبيرات، ينبغي أن نعيّن المعنى من خلال سياق الكلام، وعلى أولئك الذين يأنسون اصطلاحاً عمليًّا وفلسفيًّا خاصًّا أن لا يحصروا أنفسهم في إطار ذلك الاصطلاح، لئلّا يبتلوا بالخلط والاشتباه.
فالكمال صفة وجودية يتصف بها الموجود وتختلف من موجود لآخر، الكمال لموجود ما قد يعد نقصا لموجود آخر، وبعض الموجودات لا تملك استعدادًا لبعض الكمالات: حلاوة البطيخ – حموضة الليمون – علم الانسان، فأي موجود يمتلك حدًّا ماهويًّا خاصًّا به بحيث يتبدل إلى نوع آخر من الوجود إذا تجاوز هذا الحد من التّغييرات الماهويّة (تغيير شكل الجزئيّات – زيادة الذرّات وقلّتها – بعد التغييرات الداخليّة في تركيب الذرّة – أو تبدّل المادّة إلى طاقة)، كما قد تحصل على الرغم من وحدة هذه التركيبات كلّها (البذرة الصناعيّة إلى البذرة الطبيعيّة).
وهذه الماهية تنسجم مع بعض الاوصاف، ولها استعداد لقبول بعض الكمالات، وحدوث ماهية جديدة لا يستلزم فناء الكمالات القبلية، فالكثير من الموجودات تقبل حالات فعلية وكمالات متعددة (طولية / متتالية) مثل النباتات تَحوي الذرّات والمواد المعدنيّة نفسها، إضافة إلى الفعليّة النباتيّة التي تأتي في طول توافر تلك الذرّات والمواد.