اللذّةّ من خلال نتائج المقالات السابقة فهي إذًا من جهة دافعٌ للنشاط والسعي الحياتيّ، ومن جهة أُخرى نتيجة وثمرة لهذا النشاط، ومن جهة ثالثة تعتبر كمالًا للموجودات ذات الشعور والإدراك باعتبارها صفة وجوديّة يمتلك الأفراد استعداد الحصول عليها.
وإنّ العمل الذي يؤدّي إلى حصول لذّة والخلاص من ألم ما، يقع موقع الإرادة الإنسانيّةّ، فالإنسان يحبّ كل ما يلتذّ به، وهكذا يأتي تعبير الحبّ بالنسبة إلى العمل المرغوب. وتتوضّح العلاقة بين اللذّة والإرادة والحبّ، وقد يركّز الإنسان على لذّة معيّنة، فيحتاج للوصول إليها إلى مقدّمات أو أعمالٍ يمكن أن يكون كلٌّ منها مقدّمة للآخر، والواقع هو أنّ الإرادات المتعلّقة بهذه الأعمال أشعّة من الإرادة الأصليّة التعلّقة بالعمل الأصليّ، وهكذا فالحبّ الأصيل يتعلّق بموجود يسعى إليه ويرغب فيه بالأصالة، فتحصل له رغبات جزئيّة وفرعيّة إلى مقدّماته ومتعلّقاته؛ فيحقّق الوصول إلى أيّ منها لذّة فرعيّةّ ونسبيّةّ بمقدار ارتباطه بذلك المطلوب الأصيل.
فإن المطلوب الأصيل للإنسان بناءً على ذلك هو الكمال الحقيقييّ، أمّا مطلوبيّة الأشياء الأُخرى، فهي فرعيّة تتبع مقدار أثرها في حصول الكمال الحقيقيّ وكذلك فإنّ اللذّة التي يطلبها الإنسان بالأصالة هي اللذّة التي يملكها الكمال الحقيقيّ، في حين تمتلك سائر المقدّمات لذّات فرعيّة نسبيّة، ذلك أنّنا قلنا آنفًا أنّ اللذّة الأصيلة هي تلك التي تحصل من الوصول للمطلوب الأصيل.
ومعرفة الكمال الحقيقيّ تستلزم معرفة اللذيذ الأصيل، وكذلك العكس، ولأنّ اللذيذ الأصيل يملك أسمى لذّة ممكنة للإنسان، فإنّ معرفة اللذيذ الأصيل تلازم معرفة الشيء الذي يمكنه أن يقدّم للإنسان أكثر اللذّات وأسماها وأكثرها دوامًا، ومن هنا فلو عرفنا أكثر الموجودات منحًا للذّة، عرفنا اللذيذ بالأصالة والكمال الحقيقيّ للإنسان.
فينبغي إذن التأمّل في حقيقة اللذّة وسبب اختلاف مراتبها، لكي نعرف أسمى اللذّات الإنسانيّة وأشدّها دوامًا، فإنَّ اللذّة هي حالة إدراكيّةّ تحصل لدينا عند حصولنا على شيء نهواه ونرغب فيه، وذلك حين نعلم أنّه هو المطلوب كما نعلم ونلتفت إلى حصوله، فحصول اللذّةّ يتوقف على:
- وجود الشيء المطلوب.
- وجود الشخص الملتذّ .
- امتلاك قوة إدراكيّة خاصّة يمكن أن يدرك به حصول الشيء المطلوب.
- معرفة المطلوب والالتفات لحصوله.
أمّا المراتب المختلفة للذّة فهي ترتبط إمّا بالقوّة المدركة، أو بنوع المطلوبيّة، أو بالتفات الإنسان إليها، كما أنّه من الواضح أنّ دوام اللذّةّ مرتبطٌ بدوام ظروف تحقّقّها، فإذا فنيت ذات الشيء المطلوب، أو تغيّر حالة المطلوبيّة أو تغيّر تصوّر الشخص، أو اختلفت حالة التوجّه إليها، فإنّ اللذّة المفروضة سوف تتغيّر بلا ريب.
وهذا التعدّد الذي نلاحظه بين الذات الملتذّة والشيء اللذيذ وشرائط حصول اللذّة نجده في عموم اللذّات المتعارفة؛ لكنّنا قد لا نجد هذا التعدّد في حقيقة اللذّة في موارد أخرى؛ فنستعين بنوع من التحليل المفهومي حتّى يمكننا استعمال كلمة “اللذّة” فيها، وهذا ما نجده في موردي “العلم” و“الحبّ“، فمثلا يلزم لكي يحصل العلم أن تكون هناك ذاتٌ عالمةٌ وشيء معلوم وصفة للعالم تُدعى العلم؛ لكنّ المعنى التحليليّ لذلك هو الذي يمكن أن يصدق في مورد “العلم الحضوريّ” للنفس بوجودها، أو علم الله تعالى بذاته على الرغم من أنّه لا يوجد أيّ تعدد في البين بين العلم والعالم والمعلوم.
وكذلك المفهوم المتعارف للحبّ فإنّه يستلزم فرض ذات محبّة وشيء محبوب وحالة حبّ؛ لكنّه في مورد حبّ الذات لا يوجد مثل هذا التعدّد الخارجيّ، على هذا فإنَّهُ يمكننا أن نجد مصاديق للذّة لا تحتاج إلى التعدّد المذكور، فمثلًا يمكننا أن نقول في المجال الإلهيّ إنّ الذات المقدّسة ملتذّة من ذاتها بذاتها وإن رجح بعض العلماء أن نعبّر في هذا المورد بالبهجة بدلًا من اللذّة، وكذلك الأمر في المجال الإنسانيّ، فإنه يمكن القول بأنّ الإنسان يلتذّ بوجوده.