كثيرٌ منَّا يعوّل على أنَّ الصلاح هو صلاح الذات والنَّفس فحسب ولا علاقة لذلك بالبيئة، وأنَّ الناجحين لا يهم من أين يخرجون ومن أي بيئة، بعضهم يخرجون من بيئات قاسية لم توفر لهم أي دعم مادي ونفسي وروحي، والبيئة هنا أعني بها، وهي البيئة المحسوسة المادية التي نحن فيها، بالإضافة إلى الأسرة والأصدقاء والمجتمع بكل ما فيه من قيم وعادات وأفكار.
وكنتُ أنا شخصيًا أجدُ أنَّ أولياء الأمور يبالغون أحيانا في خوفهم من المدرسة التي سينضم فيها ابنهم، وهذا حقهم لما يحثنا عليه ديننا الإسلامي، وثمة قصص كثيرة في سياق تحسين البيئة ومن أحسنها قصة نبينا يوسف عليه السلام.
يوسف عليه السلام كان صالحًا في كل بيئة، ففي البدو وفي الجب وفي قصر الملك وفي السجن وفي منصب العزيز، ونقولها باستمرار : من أراد أن يكون صالحًا سيكون صالحًا، فالهداية والصلاح من الله سبحانه وأعطى العبد الاستعداد للسعي لها، وكلنا مؤمنون بهذا، فالأمر له وإليه ولكن هناك علة لكل سبب، هكذا بنى الله تعالى شأن الكون لكل شيئ سببٌ قريبٌ وهو سبحانه وتعالى سببُ كلِّ سبب .
ولو أعدنا النظر في قصة يوسف النبي الصديق عليه السلام فهو كان يصنع بيئة خاصة له قدر استطاعته في كل مكان، ففي البدو مع أبيه عليه السلام، كان محبًّا لكل إخوانه مع حقدهم عليه، وفي قصر الملك صنع له رفقاء خير، وفضَّل لنفسه الطامورة القاسية والسجن الأليم على المستوى المادي المتعالي الفاسد، فخرج من بيئة مادية رائعة الجمال إلى بيئة مادية متدنية لكنها أفضل له روحيًا، وفي السجن دخل هذا المكان لينظفه من كل القاذروات المادية وأهم من ذلك تنظيفه من الرذائل الأخلاقية ويصنع له بيئة مادية ونفسية وروحية أفضل بقدر استطاعته رغم أن السجن كان سيء الصيت.
هناك بيئة نستطيع تغييرها، وهناك بيئة تُفرض علينا صعبة التغيير، وكلاها ستؤثران فينا تأثيرًا كبيرًا، ولكن لماذا لا نبدأ بتلك التي نستطيع تغييرها وسيكون أثرها كبير جدا وبخطوات وجهد بسيط؟ في مستشفى عام في بوسطن، لاحظت اختصاصية الرعاية الصحية الأولى آن ثورانديك بعض العادات السيئة للموظفين العاملين معها، خصوصًا في شرب المياه الغازية بدل الماء، فقامت بتجربة عملية لتحسين عادات الأكل عند آلاف الموظفين العاملين في المشفى دون أن تتحدث لهم إطلاقًا، قامتْ بتغيير الكيفية التي تعرض فيها المشروبات في قاعة الطعام، فالثلاجات التي بالقرب من أمين الصندوق ملأتها بالمياه ووضعتْ كذلك سلالا مليئة بقنينات المياه المعدنية بجوار طاولات الطعام في قاعة الطعام، خلال الأشهر الثلاثة زادتْ نسبة مبيعات المياه ٢٥.٨٪، وقلّت نسبة مبيعات المياه الغازية ١١.٤٪، حصلت هذه التغييرات دون أي جهد إقناعي أو محاظرات إرشادية، ما حدث فقط هو تغيير بسيط في البيئة مع المحافظة على وجود المياه المعدنية والمشروبات الغازية، هذه النسبة حصلت فقط بتغيير بسيط في ترتيب البيئة.
لماذا تغيير البيئة ؟
العالم النفسي كيرت لوين كتب معادلة رياضية بسيطة وتحمل رسالة قوية، السلوك عبارة عن دالة للشخص والبيئة التي يوجد فيها، والمعادلة هي س= د(ش+ب)، س تعني السلوك، و د تعني الدالة، و ش تعني الشخص، وب تعني البيئة.
عاداتنا تتغير استنادًا إلى المكان الذي نوجد فيه والإشارات المعروضة أمامنا، فوجود الأطفال في بيئة متنمرة يعني احتمالية إصابتهم بفقدان الثقة أو العدوانية أكبر من ذلك الذي يعيش في بيئة حاضنة مشجعة، وجود العامل في بيئة عمل مليئة بالحقد والنميمة والمنافسة غير الشريفة يعني شخصية أكثر عرضة للإصابة بالحزن والاكتئاب والقلق، “البيئة هي اليد الخفية – والله تعالى وراءها – التي تساهم في تشكيل سلوكنا وشخصياتنا، رغم اختلاف شخصياتنا وذاوتنا وسماتنا المتفردة، فبعض السلوكيات نراها تظهر بشكل متكرر عند الأشخاص الذين يعيشون في بيئة متماثلة”.
يخفض غالبية الناس صوتهم في المسجد عندما يتحدثون، وفي الشوارع المظلمة يسيطر الخوف على غالبية الناس ويكونون حذرين في مسك أغراضهم الثمينة، ويأكل أفراد العائلة كمية أكبر من الطعام في المنزل الذي تتوفر فيه أصناف الطعام المنوّعة، إذ يتحكم جهازنا العصبي في إدراكنا، فنحن ندرك شيئًا من هذا العالم بحواسنا الخمس كالرؤية والسمع واللمس والشم والتذوق، ثمّة مستشعرات لا حصر لها كدوران الرأس عند الذهاب لنقطة مرتفعة والشعور بمغص عند الخوف من الإمتحان، ولكن أقوى القدرات الشعورية لدينا هي البصر، فليس مفاجئا أننا أكثر تأثرًا بما نراه، إذن الإشارات البصرية هي المحفز الأعلى للسلوك، ولهذا يمكننا الوصول لنتيجة وهي: أنت لست مضطرًا لتكون ضحية في بيئتك، ويمكن أن تشكلها بنفسك، ولكن كيف؟
كيف يكون لنا قدرة على تغيير البيئة، نحن – كما يتذرع البعض – قد خُلقنا وكُتبتْ علينا الأقدار أنْ نعيش في بيئة حارة رطبة خالية من تلك المناظر الطبيعية الجاذبة والحابسة للأنفاس، ومنازلنا في الغالب صغيرة بسيطة في التصميم، ونحن لم نختر الأهل والعائلة، فكيف نغير بيئتنا؟ البيئة التي تعيش فيها هي بيئة من مكونات مادية، ونفسية، وعقلية وروحية، لن تستطيع تغيير أشياء كثيرة حولك لا سيما المادية، فلن تستطيع إبعاد الشمس ونقل المنزل لمكان آخر وتغيير العائلة، لكنَّك مسؤول حتمًا عن توفير بيئة لائقة تعينك على تحقيق أهدافك، هذا معين جيد للنمو.
الكثير منا لا يعير البيئة الأهمية والمسؤولية على سلوكه التي يعيرها للإرادة والأخلاق، مع العلم أنّ هناك تجارب واقعية وحيَّة تنبئنا بأهمية التركيز على البيئة إنْ أردنا تغيير سلوكنا، من تلك التجارب أنَّ عائلة سكنتْ في أوروبا مدة زمنية طويلة مما أدَّى بأن يتطبّعَ أبناؤها بحسب عادات وتقاليد الأوروبين بل حتى العقيدة تأثرتْ، وعندما عادوا لوطنهم شعرتْ الأمُّ بغربة أبنائها على الدين والمسافة بينهم وبين عادات وتقاليد المجتمع الإسلامي، فلم تكن لها وسيلة أقرب لمعالجة سلوكهم سوى تعديل الوسط البيئي الذي يعيشون، فانتقت ما يناسبهم من أصدقاء بعناية مع ترغيبهم بالارتباط بهم، وقامت بتمتين عن قصدٍ وعمدٍ علاقاتهم مع محيط العائلة الكبيرة من أبناء عمومتهم وخلاتهم، فلم تمضِ مدة زمنية حتى رأتْ الأم ثمرة ذلك الجهد بتغيير البيئة على تغيير سلوك أبنائها.
إنَّ الفكرة القائلة بأن قليلًا من ضبط النفس من شأنه أن يحلّ كل مشكلاتنا لهي فكرة مترسّخة بعمق في ثقافتنا، مع إيجابيتها ودورها الفاعل في تغيير السلوك غير أن أحدث الأبحاث تبيّن شيئًا مختلفًا، فعندما يحلّل العلماء سلوك الأشخاص الذين يبدو عليهم أنَّهم يمتلكون قدرًا كبيرًا من ضبط النفس، يتبيّن أن هؤلاء الأشخاص لا يختلفون عن أولئك الذين يعانون، وبدلًا من ذلك فإن الأشخاص «المنضبطين» هم أفضل في بناء حياتهم بطريقة لا تتطلّب منهم قوة إرادة أو ضبطًا عظيمًا للنفس، وبعبارة أخرى، أنَّهم يقضون أوقاتًا أقل في المواقف التي تعجّ بالإغراءات.
فالأشخاص ذوو القدرة الأكبر من ضبط النفس هم في المعتاد الذين يحتاجون لاستخدامه بأقل قدر ممكن، فمن الأيسر أن تمارس التحكّم في الذات حين لا يكون عليك ممارسته كثيرًا، نعم، إن المثابرة والعزيمة والإرادة كلّها ضرورية من أجل النجاح، غير أن الطريق إلى تحسين هذه الصفات ليس بالتمني لأنْ تصبح شخصًا أكثر انضباطًا دون جهد وعمل، وساعدْ نفسك بخلق بيئة أكثر انضباطًا.
وإحدى الدراسات تقول: إذا كنت تريد إنزال وزنك، لا تجعل بيئتك زاخرة بمغريات الطعام غير الصحية التي توفر الطعام غير الصحي بين يديك باستمرار يعني أنك تحتاج إلى مستوى أكبر من ضبط النفس، بينما البيئة الخالية من المغريات ستكون مثالية حيث لا يوجد أكل غير صحي ولا تحتاج للإستعانة بالإرادة وقوة ضبط النفس.
وإذا كنت تريد التخلص من الغيبة مثلًا، فلا تجلس مع النمَّامين ومحبي القيل والقال، بل اجعل بيئتك عبارة عن برامج تعليمية تطويرية بحيث لا تمتلك الوقت للتقرب من المغتابين، وجودك بين المغتابين يعني أنك تحتاج جهدًا مضاعفًا في حبس نفسك من الإنخراط معهم، وكذلك الفراغ في بيئتك النفسية والعقلية يعني بيئة خصبة للإندفاع للتوجه معهم.
بعض خطوات التعديل
والآن كيف أصنع بيئة تعينني على السلوكيات الحسنة؟ هناك الكثير من المؤشرات النفسية التي تجعل ممارسة السلوكيات الحسنة كعادات واستمرار العادات الحسنة لعقود تقود للصلاح، ومنها:-
١- اجعلها جذابة: اجعل بيئتك بيئة جاذبة بتغييرات صغيرة، تريد شرب المزيد من الماء خلال اليوم؟ انشر الكثير من علب المياه المعدنية في أنحاء المنزل، وقم بتنزيل برنامج الكتروني في هاتفك يرسل لك إشعارًا لتشرب الماء، وجود الماء قربك ووجود إشعار يذكرُكَ باستمرار عن موعد شرب الماء سيجعلك تنجذب نحو سلوك شرب الماء، تعرف على عمل الدوبامين المسؤول عن انجذابنا ومتعتنا وكذلك الكثير من تعاستنا وإدماننا سلوكيات غير محببة، أفردت له موضوع أيضا تحت اسم “بسبب الدوبامين” يمكنكم الإطلاع عليه.
٢- اجعلها سهلة: من الأشياء التي تجعلنا لا نعمل الكثير من السلوكيات التي نؤمن بها هي ببساطة لأنها صعبة للغاية. التخلص من ٢٠ كيلو زائد أو قراءة ٥٠ كتابًا في السنة أو تنظيف المنزل، أدمغتنا مصصمة على حفظ الطاقة قدر المستطاع، فإذا كان بوسعنا أن نعمل رياضة أو نأكل وجبة دسمة مع حلويات، سنفضل العمل الذي يحتاج الجهد الأقل، ولهذا فلنجعلْ بيئتنا تسهّل لنا أعمالنا.
عندما نستهدف قراءة خمسين كتابًا في العام نبدأ بقراءة ورقة واحدة فقط يوميًا، مع تحسين البيئة وجعل الكتاب سهل التناول وكذلك اختيار كتاب سهل مناسب للمبتدئين في عالم القراءة، وعدم المتابعة لحسابات تقييم الأفلام أو الألعاب أو المشتريات والموضة أو الطبخ واستبدالها بحسابات متابعة للقراء، أي تصنع لك بيئة ومجتمع قارئ محيط بك.
سوف تنجح
إنَّ اعتمادنا على قوة إرادتنا وتحملنا وضبط أنفسنا في كل موقف سيجعلنا مجهدين جدًا في الصبر على السلوكيات الحسنة وترك السلوكيات السيئة، وباستطاعتنا أنْ نغيّرَ جزءًا كبيرًا من البيئة الذي تحيط بنا يمكننا تغييرها، بالإضافة إلى العمل على إصلاح الذات في بيئة مشتتة غامرة بالملهيات يجعلنا نفشل في تحقيق ما نريد من سلوكيات وعادات، إصلاح ما حولك هو طريق يسير لتكون أنت أكثر نجاحًا وذو سلوك أفضل، لا تعول على إرادتك وقوتك وحدهما وتلقي بذاتك في بيئة فاسدة، أنت هنا تبذل مقاومة أكبر لعدم الإنجراف، أصلح بيئتك وستساعدك بيئتك الصالحة على عادات وسلوك صالح.