السلوك الإنساني هو كل ما يصدر عن الفرد من أفعال ونشاطات، سواءً كانت هذه النشاطات ظاهرة (فسيولوجية وحركية)، كالابتعاد عن الخطر أو الجري لشيء أو أكل ما تحب لسد الجوع، أو كانت غير حركية كالتذكر والتفكير والتحليلات وغيرها، والسلوك يحدث في بيئة معينة ويكون ناتج عن تأثر الفرد بعوامل معينة في هذه البيئة، أي أن السلوك مرتبط بالمثيرات، وكيفية التصرف إزاءها، ويرى إيفان بافلوف أن الكائن الحي يجب أن يستجيب لما حوله بطريقة معينة تحقق له التوازن بينه وبين البيئة الخارجية، من خلال تحليل المجال الخارجي إلى عناصره حتى يتمكن الفرد من التعامل معها بشكل جيد (علي راجح بركات، نظريات التعلم السلوكية، جامعة أم القرى، رسالة الدكتوراه، ص٦).
إذا كان السلوك يصدر كما ذكرنا فإن هذا دليل على إمكانية تغييره أو تعديله من خلال تخيّر المثير المناسب وترويض الفرد وتعويده على الاستجابة المناسبة، وحتى فرعون بتجبره واستكباره كانت هناك دعوة لنبينا موسى عليه السلام وأخيه هارون بمحاولة تعديل الخط الذي يسير فيه باتباع الطريقة المناسبة قال تعالى(اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى)سورة طه، آية 43 – 44، وقول واطسون “أن الخبرة تؤثر أكثر من الوراثة في السلوك والقدرات“ علي راجح بركات، نظريات التعلم السلوكية، جامعة أم القرى، رسالة الدكتوراه، ص١١، دليل أيضًا على إمكانية إحداث التغيير بالممارسة واكتساب الخبرة، وجدير بالذكر أن عملية تعديل السلوك ليست عملية خارجية فقط، بل قد تكون عملية ذاتية يقوم بها الفرد عندما يشعر بخلل في طريقة استجابته تجاه حالة معينة أو أمر معين، فيستطيع أن يقوم بضبط هذا السلوك بإخضاعه إلى عوامل أو مبادئ مؤثرة، بإمكانها مساعدة الشخص في تعديل سلوكه.
“إنّ عملية تغيير السلوك وتعلم شيءٍ ما عملية متصلة مترابطة، قد تستغرق وقتًا قصيرًا أو قد تأخذ فترة زمنية طويلة نسبيًا، وذلك تبعًا لعوامل عدة، متعلقة بالفرد نفسه أو بحجم ما يريد تحقيقه، ولحدوث هذه العملية شروط لا بد من توافرها ” مدخل لدراسة السلوك الإنساني، د.جابر عبد الحميد، الطبعة الرابعة ١٩٨٦م، دار النهضة العربية، القاهرة، ص٥)؛ حتى يتمكن الفرد من السير فيها:
● الدافعية: فإن لم يكن هناك دافع ينطلق به الفرد في عملية إحداث التغيير فلن يتم هذا التغيير أصلا، فالدافعية هي المنشّط في بدء السلوك أو تعديله أو المحافظة عليه، وباختصار فإنّ الدافعية تعني عزيمتك وإرادتك المطلوبة لفعل شيء.
● الاستجابات المتعددة: الدافعية تدفع إلى إصدار استجابات عديدة، ولا بد أن يبدأ الفرد في إخراج ما في خبرته السابقة، فيحدث تتابع متباين من الاستجابات وهذا ما نسميه المحاولة والخطأ، وهذه مرحلة طبيعية عند القيام بأي شيء جديد، وكلما كان الموقف صعبًا أو معقدًا، فإنّنا معرضون للمحاولة والخطأ أكثر، ولكن ما يجب تذكره أنها مرحلة انتقالية لا بد من المرور بها، ولا يمكن الاستسلام من بدايتها، ويجب ألا يُسمح للإحباط بالسيطرة، وهذا ما يربطنا مجددًا بالدافعية.
● التعزيز: والمعززات باختصار هي الأشياء أو المواقف التي تُظهر القدرة على تقوية الاستجابات، وهذا ما يضمن استمرارية المحاولة، ويمكن للتعزيز أن يكون كلمة من شأنها الشد على يد من يخوض التجربة، وجميعنا نملك بذرة بدواخلنا قادرة على تعزيزنا ذاتيًا إذا آمنا بما نملك، والتعزيز كالمكافأة التي تجعلك ممتنًا وتزودك بطاقة الاستمرار، ويمكن للتعزيز أن يكون مستمرًا أو متقطّعًا أو نسبيًا كما يصنفه سكينر، “فالمستمر هو اللازم باستمرار لضمان سير الاستجابة المطلوبة، ككلمات المعلم المعززة لتلميذه في كل حصة، وأما المتقطع فهو ما يكون بين فترات حتى مع عدم ظهور الاستجابة المرغوبة كالخروج للتنزه مع الطفل بين فترة وأخرى، والنسبي هو ما يتحدد بعدد الاستجابات المناسبة الصادرة من الفرد، والتعزيز قد يكون إيجابيًا أو سلبيًا” نظريات التعلم السلوكية، ص ١٨، فعندما نقوم بإعطاء الفرد شيئًا محببًا لديه مما يعمل على زيادة إنتاجه للسلوك المرغوب فإن هذا ما يسمى التعزيز الإيجابي، وعندما نمنع عن الفرد شيئًا غير محبب لديه نتيجة سلوك جيد يقوم به فإن هذا هو التعزيز السلبي، أي أنه منع مثير غير مرغوب، كأن يقول المعلم لأحد تلاميذه إذا استمر هدوؤك حتى نهاية الحصة فإنك معفيّ من الواجب المنزلي، والمهم هنا هو اختيارك للتعزيز الذي يتناسب وموقفك أو موقف من تعمل على تغيير سلوكه.
● التكرار: حينما يصدر الفرد السلوك الصحيح على نحو تتابعي، فإن تكرار هذا السلوك سيساعد على تسهيل الأداء وكفايته، ويمكن ربط التعزيز بهذا التكرار للسلوك الصحيح، فكأنه نتيجة له، وتجدر الإشارة إلى أن التكرار الذي يخلو من الدافعية لا معنى له في داخل نفس الفرد، يقول واطسون:” أن الحركات التي تبقى وتُحفظ هي التي تتكرر“ نظريات التعلم السلوكية ، ص١١.
يمكن للفرد البدء في أي تعديل انطلاقا من هذه الشروط الأربعة التي لا بد من توافرها، فكأنها الخطوات الأولى اللازمة لذلك.
إنّ عملية تغيير السلوك لا تتم بشكل آلي وفائق السرعة، ولا يمكن للاستجابات أن تحقق أعلى المعدلات منذ البدء في المحاولة، لهذا لا بد من وضع عدة أسقف في مستويات الأداء والتدرج فيها، إلى حين الوصول إلى السلوك المطلوب، فلا يمكن لطفلٍ مثلًا أن ينتقل من مرحلة لبس الحفّاظ إلى مرحلة الذهاب إلى دورة المياه عند الشعور بالحاجة إلى ذلك من دون مرحلة عابرة بينهما، تحاول فيها الأم تقليص عدد ساعات لبس الحفاظ تدريجيًا، وتزيد من تعزيزات طفلها ومكافأته كلما قام بالعملية لوحده دون مساعدتها، وهذا التدرج مطلوب على أنه نوع من أنواع السّجلات التي ترصد مدى التقدم المنشود وملاحظته كما سيأتي.
خطوات عملية تعديل السلوك
١- حدّدْ هدفَكَ، وكن ذا عزم على التغيير.
٢- دوّن توقعاتك حول مدى قدرتك على تحقيق ما تريد.
٣- صف السلوك الحالي أو المراد تعديله.
٤- ضع خطة منظمة تسير عليها، كرصد عدد محاولاتك وقياسها بالمدة الزمنية، وملاحظة التقدم.
٥- لاحظ أي تحسّن أو خلل في السلوك.
٦- قم برسم المنحنى لمساعدتك في تتبع التطور.
٧- صف السلوك الجديد ومدى ملاءمته لتطلعاتك.
٨- عزّز/ كافئ بعد كل تحسّن، واعزم على تحسين الخلل.
٩- ادرس المؤثرات جيدًا، سواء المؤثرة سلبًا لتفاديها، أو المؤثرة إيجابًا للمحافظة عليها.
وفيما يأتي مثال على منحنى تعديل السلوك/ التعلم، لحالة العصبية والغضب:
بدايةً لا بد من وجود الدافع والإرادة الثابتة للتغيير لأنها الانطلاقة الحقيقية، ولا بد من البدء في الملاحظة الدقيقة للسلوك خلال اليوم والبدء بتدوين عدد مرات المحاولات في كبح هذا الغضب، وتدوين عدد مرات الفشل كما هو موضح في الرسم الآتي:
في الرسم السابق يتضح أنّ بعض الفترات فيها تقلص واضح في عدد الأخطاء، وهذا يتضح في المحاولات المبكرة، بينما فترات أخرى نلاحظ تذبذب بين الزيادة والنقصان وفترات فيها ثبات، وهذا هو المنحنى الطبيعي الذي يؤثر على سيره مختلف العوامل المحيطة، كالحالة النفسية للفرد أو طبيعة علاقاته أو طبيعة المواقف نفسها وقدرته على إدارتها، ولكن في النهاية يصل إلى استقرار الحالة إلى سلوك جديد وتقلص السلوك السابق قدر الإمكان.
بعد رسم المنحنى ومراقبة السلوك عليك بتحليل ما قمت به، بتفريغ البيانات باختصار حتى تتمكن من تنظيم ما تفعل:
● العنوان: ما يعبر عن طبيعة التجربة: تعديل سلوك ….
● المشكلة: وهي غرض التجربة ذاتها، أي المشكلة السلوكية، والهدف من التجربة.
● الأدوات: وهي ما ستستعين به في هذه التجربة، مثل الاطلاع على محاولات الآخرين ومحاكاتها، أو الاقتداء بتعاليم وشخصيات معينة، أو اللجوء إلى ممارسة رياضة أو نشاط يساعدك في تحقيق ما تريد، أو أي وسيلة تشعر بأنها عامل مساعد جيد.
● الطريقة: أن تصف ما توصلت إليه وتفسّر البيانات، أي أنك ستتعقب ما ساعدك على تقليل الأخطاء وزيادة المحاولات الصحيحة والعكس، وهذا يشمل تسجيل الظروف التي ناسبتك والتي لم تناسبك، وهي ما يسمى بالمتغيرات التي يجب أن تضبطها وتتحكم بها أكثر لتجعلها ملائمة في إنجاح تجربتك.
● النتائج والمناقشة: والنتيجة هي نفسها ذلك المنحنى الناتج الذي ستكون المناقشة بناءً عليه، وهنا يتم تلخيص ما توصلت إليه من عموم تجربتك، ويمكنك هنا وضع التساؤلات والبحث عن إجاباتها: (ما الذي حدث في الفترة التي زاد فيها عدد الأخطاء بعد أن كان أقل؟…).
● الخاتمة: وتشمل تفسيراتك وإجاباتك حول حالتك، وهنا تستطيع أن تضع القوانين أو المبادئ الخاصة بتجربتك (الظروف التي تساعدني على ابتلاع الغضب هي …..، البيئة الأسرية الهادئة تقلل من الهيجان …).
وهنا يمكن العودة إلى التوقعات والتدرجات التي كنت قد صِغْتَها سابقًا، وقارنها بأدائِكَ، فإنْ كان التوقع يفوقُ الأداء اعمل على تقليص الفارق باستمرار المحاولة، وإذا كان أداؤك أفضل فكافئْ نفسَكَ للحفاظ على الأداء والاستمرار فيه، واجعل لك ذاكرة تعود إليها كلّما لزم الأمر في ضبطك مرة أخرى، أما عن معرفتك للنتائج فله هدفان: الأول أن تتمكن من تقويم كفايتك وتغيير استجاباتك لتحقيق الدقة، والثاني أنَّهُ سيشعرك بالرضا عن كل تطور وهذا ما سيقودك إلى تكرار السلوك الصحيح.
لا بد من الشعور بالمسئولية تجاه تعديل أي سلوك منحرف أو خاطئ، في حال الشعور بخلل في السلوك الذاتي أو سلوك فرد من الأسرة أو حتى من المجتمع وبالإمكان تعديله، سواء بالمحاولة أو اللجوء إلى أهل الاختصاص، وهذه عملية تقع على عاتق الجميع، لاستمرار حمل الرسالة الصحيحة في مجتمع سليم، والذي لا يمكن أن يكون سليمًا والاضطرابات السلوكية متفشية في أفراده، ولقد أرسى الله تعالى المقومات السلوكية والأخلاقية برسالاته وأنبيائه قال تعالى (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوْ عَلَيْكُمْ ءَايَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) سورة البقرة، الآية 151.