شرح الصدر توسعته بنور إلهي وسكينة واطمئنان من الله تعالى، ويقابله ضيق الصدر {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ} الحجر، الآية ٩٧، وفي سورة الشرح كانت آية {ألم نشرح لك صدرك} كناية عن التوسعة في فكر وروح النبي (ص) على أصعدة مختلفة:
● توسعة علمية (بالوحي والرسالة)
● توسعة في قدرة تحمل واستقامة النبي (ص) أمام الخصوم.
ثم إن شرح الصدر من أكبر النعم التي نالها النبي (ص) والتي كانت تقف في مصاف معاجز الأنباء عليهم السلام، إذ روي عنه (ص) أنه قال: “أي رب إنه قد كان أنبياء قبلي منهم من سخرت له الريح ومنهم من كان يحيي الموتى، فقال: ألم أجدك يتيما فآويتك؟ قلت: بلى، ألم أجدك ضالا فهديتك؟ قلت: بلى، ألم أشرح لك صدرك؟ ووضعت عنك وزرك؟ قلت: بلى أي رب” وهذا يعني أن شرح الصدر نعمة لا يقل شأنها عن أي نعمة حباها الله أيًّا من أنبيائه، بل أنها الهبة التي أعانت نبينا الكريم (ص) على شق طريق الرسالة في مختلف منعطفاتها، وأعانته على مجابهة العواصف والمكائد خلال رحلة الدعوة، وفي جنبات كثيرة من السيرة الشريفة يتضح أن شرح الصدر تأييد إلهي بالحجم الذي يناسب ثقل الرسالة المكلَّف بها (ص) الشيرازي، الأمثل، ص٢٦٩.
إذًا انشراح الصدر طاقة دافعة متدفقة من داخل الإنسان تعينه على المضيّ والاجتياز، ولا يتحصّل عليها إلا بصلة قويمة بين العبد وربه، وهذا المصداق واضح في الآية الكريمة (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (٩٧) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ (٩٨))وكأن علاج انقباض وضيق صدر النبي (ص) من أقوال وفعال أعداء الإسلام هو التسبيح وذكر الله تعالى والتذلل والخضوع بين يديه، ودائمًا ما تربط الآيات الكريمة الجانب الديني بانشراح الصدر لأن في الحقيقة انشراح الصدر ما هو إلا النور الممتد من خلال الحبل الذي يربطنا بالله سبحانه، قال تعالى: (َمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ ۖ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ) الأنعام، الآية ١٢٥، وهنا تم ربط الضلال بضيق الصدر مقابل ربط الهداية بشرح الصدر بالإسلام. وعلى سبيل المثال لا يمكن لأرض غير صالحة وسبخة أن تثمر وتزرع حتى لو نزل عليها الماء، فهي لا تملك الاستعداد للخصوبة أصلا، ولا يمكن للوعاء الصغير أن يمتلئ بالماء الكثير لأنه لا يسع لذلك، وكذلك هي القلوب والأنفس، فالقلوب المستعدة لبناء ذاتها مستعينةً بالله تعالى هي القادرة على الاستفادة من آياته وحكمته، أما أصحاب القلوب المغلقة والقاسية والأنفس اللاهية المنغمسة في المادة لا يمكنها أن تأخذ بألطاف الله واستشعار الفيض حتى ينعكس انشراحًا للصدور، قال تعالى (أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبِّهِ ۚ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ ۚ أُولَٰئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) الزمر، الآية ٢٢، وقد سُئل رسول الله (ص) عن تفسير هذه الآية، فقال (ص): “إذا دخل النور في القلب انشرح وانفتح” ثم قلنا: يا رسول الله ما هي أمارات انشراح الصدر؟ فقال: ” الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزوله” ويقول صاحب تفسير الأمثل أن الرحابة والاتساع في الصدر كناية عن الاستعداد والاستقبال لتقبل الحقائق أكثر، وما دام هذا النور من عند الله فهذا يعني أن المؤمن يستطيع امتطاءه للمسير في العوالم والحوادث بثبات وقوة (الشيرازي، مصدر سابق، ص ٦٠).
عوامل انشراح الصدر
إنَّ العبد في أموره الحياتية مطالب بنمط معين من التعاملات، ولا بد من عرض كل شيء على الشريعة الحقة وقياسه وإمعان النظر فيه حتى يتمكن من تحديد الموقف الصحيح حياله، ومن النتائج المؤكدة أنه كلما اتقى العبد ما قد نُهي عنه كلما كان طريقه لتطهير باطنه أسرع، وكلما حرص على تطهير باطنه كلما انشرح قلبه واتسع بنور الله حتى يصل إلى السكينة والاطمئنان اللذين يمكنانه من الثبات على الطريق، وهذه العملية تتطلب عدة عوامل تجتمع فيما بينها لتصل إلى هذه المرحلة:
١– التحصيل المعرفي المستمر والسعي وراء التثقف الديني.
٢– مجالسة العلماء والحكماء والعرفاء والصالحين، أو الاستفادة من قراءاتهم ودراساتهم على أقل تقدير، وارتياد مجالس الذكر، وهذا ما يقابل ارتياد مجالس اللهو والبطالين التي من شأنها تغييب الذهن وغمره بالمعاصي والملذات وبالتالي غياب الجانب المتزن من الإنسان.
٣– تهذيب النفس وبناء الذات من خلال التقييم الذاتي المستمر والاعتراف بمواطن القصور فإن محاسبة النفس من أهم الخطوات لتأنيبها وردعها، ومن خلال الاستلهام من سير المعصومين عليهم السلام.
٤– اجتناب الذنوب وعدم استصغار أي ذنب؛ فالاعتياد على ارتكاب الذنب يؤدي إلي فقدان الشعور بأنه ذنب بغضب الله كما أن ارتكاب الصغير من الذنوب وتكراره سيجر إلى ارتكاب الذنوب العظام بشكل تدريجي إذا لم يكن هناك ما يوقظ وجدان المرء، ومنها ما يغفل عنه الكثيرون: أكل الشبهة أو الطعام المحرم (حلّية الأكل ومصدره) وهي نقطة قادرة على تلويث باطن الإنسان وبالتالي اختلاط الموازين واختلال النزعة والفطرة السليمة لديه.
٥– تعويد اللسان على الذكر الدائم، وملازمة الاستعاذة بالله تعالى، فإنه كلما ذُكر الله كلما نحى الشيطان بجانبه.
٦– تعويد النفس على التحرر من المادة وعدم السماح لهذا الجانب بالسيطرة على النفس لأن من شأن ذلك نسيان الآخرة والعمى عند ارتكاب الذنب، عن الإمام الصادق(ع): ” أوحى الله عز وجل إلى موسى: يا موسى لا تفرح بكثرة المال، ولا تدع ذكري على كل حال، فإن كثرة المال تنسي الذنوب، وإن ترك ذكري يقسي القلوب ” المجلسي، بحار الأنوار، ج 70، ص 55، وكما قلنا فإن القلوب القاسية غير المؤهلة لاستقبال نور الله لا يمكن أن يكون أصحابها في انشراح.
٧– المواظبة على قراءة القرآن قراءة حقيقية صادقة خاشعة، وهذا من شأنه أن يرقق القلب ويحيطه بهالة نورانية، ومن شأنه تحقيق الشعور الفوري بالراحة الداخلية.
٨– العودة والإنابة إلى الله والبكاء في حضرته من خشيته طلبًا للتوبة.
وإنَّ ذلك كله كأنه حجٌّ حقيقيٌّ إلى الله في كل مراحل الحياة دون توقف، وهذا ما يجعلك في حصانة متجددة، والمسألة عكسية فإن فعل كل ما ينافي هذه العوامل أو إهمالها سيؤدي في النهاية في قسوة القلب وانغلاقه وبالتالي عدم استقباله لأي نورٍ سماويّ وهذا ما يجعل الإنسان في ضيق شديد أو يجعله سريع الوقوع والانجراف والانهيار تحت أول عاصفة تمر به مهما صغر حجمها، وهذا ما يجعلنا نلمس فرقًا روحيًا بين من يجزع من أدنى أمرٍ يمرّ به وبين من نرى البلاءات قد اجتمعت عليه في وقت واحد ولكنه ما زال يبتسم ويقول الحمدُ لله!