أثر الإهمال العاطفي للطفل
ولعل الأطفال هم الأكثر عرضة للإساءة العاطفية غير المباشرة أو غير المقصودة، وقد تحدث بعدة طرق؛ فقد يتعرضُ الأطفال للتهديد والصُّراخ من قبل الوالدين، اللذين لا يملكان سلوكًا سويًا أو متزنًا لدرجة أنَّ طفلهما قد لا يعرف ما إذا كان سيتم احتضانُهُ أو صفعُهُ عند مناداتِهِ، وهو أمرٌ غريبٌ جدًا إذا ما أخذْنَا بعين الاعتبار الجوانب العاطفية والإنسانية، فضلًا عن العلاقة الحميمية بين الوالدين وأبنائهم، إنَّ خلق بيئةٍ تعزّز توقع إساءة المعاملة يمكن أنْ يكون ضاراً للغاية بالطفل، وبالمثل فإنّ البرود العاطفي من قبل الوالدين أو أحدهما يعد صنفًا من أصناف الإيذاء العاطفي وله ارتدادات خطيرة على المستوى النَّفسي والبدني على الأبناء.
ولا يقتصر الأمر في الإساءة العاطفية على سلوكيّات سلبية فحسب، بل قد تكون الإساءة عبارة عن مجموعة من المواقف السلبية أيضًا، لذلك فنحن بحاجة إلى إدراج كلمة الموقف في تعريفنا للإساءة العاطفية، فالطرف المُبتَّز عاطفيًا لا يحتاجُ إلى اتخاذ أي إجراءٍ علنًا على الإطلاق، كل ما عليه هو أنْ يظهر موقفًا مسيئًا ليترك أثرًا سلبيًا في الآخرين.
وهنا بعض الأمثلة التوضيحية
١– يعتقد المُبتَّز أن على الآخرين أنْ يفعلوا ما يقوله بشكل دائم، فمقترحاته على سبيل المثال لا تخضع للنقاش بل تجري مجرى الإلزام للتطبيق، ومنشأُ ذلك هو النظر للآخرين بمنظار الدونيّة وأنّه الأفضل، وأنّهُ صاحب الرأي الذي ليس فوقه رأي، وهذا منشؤه الغرور والتمحور على الذات، وهذا لايتوقف عند السَّديد من آرائه وإنّما يتعدى إلى آرائه غير الحصيفة والتي لا فائدة منها، فموقفه من آرائه واحد.
٢– يهمل المُبتَّز شعور الآخرين وقراءتها قراءة سليمة ودقيقة، ولذلك فأفعاله لا تحدُّها حدود الآخرين ومشاعرهم، فهو يفعل ما يشاء ويرفض أي ردة فعل من قبل الضحية، بل وأي ردة فعل تبديها الضحية، فهي نوعٌ من الإخلال بالعلاقة، ويتحمل المجني عليه كافة التبعات والنتائج، أمّا المُبتَّز فهو الحمل الوديع الذي لا يتحمل أي جناية أو ملامة على أقل تقدير، ولهذا فإنَّ المُبتَّز لديه نسبة ضئيلة جدًا من الذكاء العاطفي، فهو لايستطيع قراءة مشاعر الآخرين، وإن استطاع قراءتها فهو لا يمكن أنْ يعترف بذلك بسبب تضخم الأنا.
٣– يتجاهل المُبتَّز مشاعر الآخرين، وهو لا يفرق بين الحزن والفرح، وإنَّ أولى أولوياته هو تحقيقُ غرض الإيذاء، ولأنَّهُ يتمحور حول ذاته فإنَّهُ يعيش عالمه الخاص، ولا يمكن أنْ يقرَّ بأنَّ هناك عوالم أخرى، “فليسلم عالمي وما دونه فتلتهمه النّار“، وأما الآخرون فإنّ عليهم أن يبدوا التعاطف والاهتمام به؛ لأنّه أستحق ذلك كما يتصور.
٤– يؤمن بأن الجميع أقل شأناً منه، وعلى الآخرين التسليم بهذه الحقيقة، وإلا فهم في دائرة من يسيؤون إليه، وأنَّهُ ضحية لردات أفعالهم لا فعله هو، ولأنَّهُ لا يرى إلّا ذاته، فهو يعيش حالة من الاعتزاز بالنفس وأنَّهُ يجب أنْ يكون محط اهتمام الآخرين.
٥– يرى المُبتَّز وبأولوية قُصوى أنْ يؤمن الآخرون بأنّهُ على صواب بصورة دائمة، وآراء الآخرين يجب أن تخضع لإرادته، فمقترحاته تجري مجرى الإلزام وإلّا فإنَّ من يختلف معه أو لا يقبل آراءه فهو لا يقدره ولا يحترم ما يطرح من أفكار مميزة وآراء سديدة.
الابتزاز معول هدم
مجمل الآثار الرئيسة للإساءة والإيذاء العاطفي تتمحور في شعور الضحية بازدراء بنفسه وتحطمها وعدم إحساسه بالوجود الشخصي، وأنْ لا قيمة له في مجتمعه أو محيطه، وأنَّهُ نكرةٌ لا تأثير له أبدًا، فتكون تلك الآثار بمثابة معاول هدم جبّارة، والتي تتمثل في الاكتئاب وعدم وجود الدافع، والارتباك وصعوبة التركيز و اتخاذ القرارات، وانخفاض احترام الذات، ومشاعر الفشل والدونيّة أو عدم الإحساس بقيمته كإنسان، ومشاعر اليأس واللوم الذاتي، بل وتدمير الذات.
إنّ الإيذاء العاطفي أشبه بغسيل الدِّماغ من حيث أنَّها ترتدُّ بشكلٍ منهجي لتأتي على ثقة الضحية بالنفس، والشك الدّائم في تصوراته، واختلال مفهوم الذات، وسواء كان ذلك بالتوبيخ والتقليل المستمريْن، أو عن طريق الترهيب، أو تحت ستار التوجيه أو التدريس، فإنَّ النتائج متشابهة، في نهاية المطاف فإنّ الضحية يفقد كل المعاني العالية للنفس وجميع القيم الشخصية.
المعتدى عليهم يميلون إمَّا إلى أخذ الانتقادات والرفض لشريكهم أو أنْ يكونوا في حالة اضطراب مستمر تتولد من خلالها سلسلة طويلة من الأسئلة الكبيرة والمهمة، تستهدف الكثير من الجوانب الشخصية مثل: هل أنا سيء لهذه الدرجة؟ هل من المستحيل إرضاء الطرف الآخر؟ هل يتحتمُّ عليّ أنْ أبقى في هذه العلاقة؟ هل أنا شخصية محبوبة؟ هل لي قيمة وتأثير عند أصحابي؟ أو يجب أنْ أبتعد وأكون لوحدي حيث أنّني غير كفء، وأنني لا يمكن أنْ أصلَ لما وصل إليه غيري، ربما أنا غير محبوب.
معظم ضحايا الإعتداء العاطفي لا يكتفون بإلقاء اللوم على أنفسهم لجميع المشاكل في العلاقة ولكن أيضًا يصلون إلى مرحلة عدم الإيمان بقدراتهم وإمكاناتهم حتى يسيطر الإحباط على كامل مفاصل حياتهم وعلاقاتهم.
إرث الإساءة والإهمال
يعيش الأطفال في الأسر حالة من حالات الانفصال في أكثر الأحيان والتباعد بينهم وبين الوالدين، فالطِّفلُ الذي يحرم من التَّرابط العاطفي الضروري والحب والدعم فإنّهُ يكبر مع الحرمان العاطفي الشديد، وينمو وهو يتعرض للإيذاء اللفظي أو البدني وغالباً ما يكون عنيفًا، فيتسبب ذلك بحالة من انخفاض احترام الذات.
ومن جانب آخر فإنّ صور الإيذاء والإساءة تتعدد وتتنوع، بعضُها له مصاديق واضحة وظاهرة، والبعض الآخر في غير ظاهر ومن أوضح صور الإيذاء هم الأطفال الذين يتعرضون للاعتداء الجنسي حيث يعانون من أضرار نفسية شديدة ستلحق بهم لبقية حياتهم، ويكون من الصعوبة بمكان الخروج من نفق العقدة التي ترمي بظلالها على كل محطات حياتهم إلا أنَّهم قد ينقذون أنفسهم بالوعي والمجاهدة، ولهذا فإنّ ضحايا الإساءة العاطفية يعيشون حالة نفسية سيئة لأنها تشوّه حقوقهم في أن يكونوا محترمين وسعداء.
فالإساءة والإهمال لا يحدثان أبدًا في دائرة مفرغة، فعندما يتعرض الطفل لإساءة عاطفية أو جسدية أو جنسية فإنّ الأضرار تمتد لسنوات وقد تصل حتى لذرية هذا الطفل، وتنشطر الأضرار لتلحق بأفراد آخرين من أسرة الطفل – ولا سيما إخوته، وينطبق الشيء نفسه على سوء المعاملة الزوجية من أحد الشريكين ، فعندما يضرب الرجل زوجته ظلمًا، فإنه يضر بأطفاله عاطفيًا، وقد تتحول الأسرة إلى جحيم لايمكن السيطرة على الأجواء المشحونة وإن تمَّت السيطرة فهي تحتاج إلى بذل جهود كبيرة من أجل إزالة جميع آثار تلك الاعتداءات العاطفية.