ذروة الميول وغاية الآمال
النتيجة التي تحصل عبر التأمّلات الماضية هي أنّ مدى الميول الفطريّة الإنسانيّةّ يمتدّ إلى اللّانهاية، فلا يعرف أيٌّ منها حدًّا، بل إنّها جميعًا تسوق الإنسان نحو اللانهاية، وهذه الخاصيّةّ اللانهائيّةّ في الميول الإنسانيّةّ أمرٌ يقبله حتى الفلاسفة غير الإلهيين، بل تُعدّ من أهمّ مميّزات الإنسان عن الحيوان، يقول راسل: “إن أهمّ أنماط التفاوت الرئيسيّة بين الإنسان والحيوان هي أنّ الميول البشريّة غير محدودة، ولا يتيسّر إرضاؤها بشكل كامل“، على الرغم من أنّ هذه الميول تتعلّق بأمور مختلفة، لكنّها في النهاية ترتبط وتلتحم في ما بينها، ويتلخّص الإشباع النهائيّ في شيء واحد هو الارتباط بالمنبع المطلق للعلم والقدرة والجمال والكمال، وهذه هي خاصيّة مراتب الوجود، فإنّه مهما اشتدّ وقَوي وتكامل اتّجه نحو الوحدة والبساطة، وذلك كالقوى الإنسانيّة المتفرّقة في مقام تعلّقها بالبدن والمتّحدة في حقّ النفس؛ إذ تكون النفس في حال وحدتها وبساطتها واحدة لكمالات القوى الإنسانيّة كلّها، ومن هنا يعبّر الفلاسفة عن ذلك بقولهم “والنّفس في وحدتها كلّ القوى“.
فإنّ ما يطلبه أيٌّ من الميول الفطريّة الذي يمتدّ مداه من جهة باتّجاه اللانهاية؛ حيث يتّحد هناك مع سائر المطلوبات هو في الحقيقة شيء واحدٌ يُنظر إليه من زوايا نظر مختلفة، ويبحث عنه من جهات شتّى، وهو عبارة عن الارتباط بالموجود المطلق اللانهائيّ الكامل؛ أيّ القرب من الله تعالى.
وفي مثل هذا المقام يجد الإنسان ارتباطه الكامل بالخالق ويشبع ميله الفطري بمعرفة حقائق الوجود، والسؤال المهم: هل يمكن إشباع الميول الفطريّة بشكل كامل؟ وهنا شبهة حاصلها: أنّه وإن كانت الميول الفطريّة تتّجه نحو اللانهاية، ولكن أنّى لنا أن نعرف أنّ الإشباع الكامل لها أمرٌ ممكن الحصول؟ خصوصًا مع الالتفات إلى أنّ الإنسان موجودٌ ضعيفٌ له قدرات محدودة.
وحلّ هذه الشبهة هو أنّ دليل إمكان مثل هذا الإشباع هو الفطرة نفسها، ذلك أنّ الميول الفطريّة هي من الواقعيّات العينيّة، وجزءٌ من قوانين الوجود، فهي من قبيل الجاذبيّات التي تقوم بنفسها دليلا على وجود القوّة الجاذبة، لا من قبيل الصّور الذهنيّة التي تحصل بواسطة الحواسّ أو القوى الذهنيّة، وتكون نسبتها إلى الحقائق العينيّة نسبة الكاشف إلى المنكشف؛ ليأتي فيها احتمال المخالفة للواقع .
أمّا مسألة محدوديّة القوى الإنسانيّة وانتهائها بالموت فهي مبنيّة على أصالة المادّةّ وانحصار الحياة بالحياة الدنيويّة، وكلا هذين المبدأين يخالفان الفطرة، وإنّ الميل الفطريّ الإنسانيّ للكمالات فوق الطبيعيّة وللحياة الخالدة هو بنفسه ممّا يبطلهما ويشكّل دليلًا كافيًا لإثبات ما وراء الطبيعة وإثبات الحياة الأُخرويّة، ومن الطبيعي أنّ دليل هذا الموضوع لا ينحصر بالفطرة، إذ يمكن إقامة براهين عقليّة ونقليّة متعدّدة عليه، وينتج مما سبق: أنَّ الاشباع الكامل للاحتياجات الفطرية الانسانية لا يحصل إلا في ظل الارتباط الواعي بمبدأ الوجود.
ويمكننا أن نثبت إمكان هذا الارتباط بالبرهان الفلسفي العقلي وملخصه كما يلي: أنَّ جميع الموجودات لها ارتباط لا ينفصم بخالقها، وإن حقيقة وجودها هي الربط والتعلق به، وبما أن الانسان قادر على العلم الحضوري بحقيقته، وبما أن حقيقته هي عين الربط بالخالق فالنتيجة أنه قادر على تحقيق ارتباط واع كامل به سبحانه وتعالى.
أما العلم الحضوري بالنفس فهو أمر أتفق عليه الفلاسفة الالهيون عند تركيز الانتباه نحو الذات، أما الارتباط الوجودي بالخالق، فيمكن اثباته من خلال مبادئ الحكمة المتعالية (صدر المتألهين)، إذا ثبت أن للموجود مراتبَ طولية، وأنَّ المراتب الدانية شعاع من المراتب العالية ومعلولة له وقائمة بهن وأن العلية الحقيقية لا تعني سوى الربط الوجودي، لا بين شيئين مستقلين وإنما بين مستقل وغير مستقل.
واذا شاهد أحدٌ حقيقته وجدها قائمة بالعلة وشعاع منها (وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك … وألحقني بنور عزك الأبهج)، وبمقدار وضوح إدراك الانسان لارتباطه وعدم استقلاليته يكون التفاته وتوجهه الى صاحب الربط والموجود الأصيل، ومع حصول هذا الارتباط فإنَّ حاجة الانسان للحقيقة تشبع ويحصل على أسمى اللذات.