سبل السلام

الإمام علي (عليه السَّلام): «أفضل السَّعادة استقامة الدِّين».

(ميزان الحكمة 4/225، الريشهري)
الرغبة إلى الله

الرغبة إلى الله ودرجات تحققها

قال تعالى: ﴿وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا﴾ سورة الأنبياء، آية ٩٠، الرغبة هو الحرص على الشي والطمع فيه، وهي أعلى من الرجاء بدرجة لأن الرجاء طمع يحتاج إلى تحقيق، والرغبة سلوك على تحقيق.

● أن ترغب في معرفة الحقيقة وإدراكها أقرب مكانًا من أن ترجو إدراك الحقيقة.

● الرجاء نوع من الطمع في الحصول على شيء ما وهو في قرارة نفسك مشكوك في تحققه ولا تعيش حقيقة أمره؛ لأنك لا تملك ما يعزز قوة يقينك به، ولكن الرغبة هي طمع في الحصول على شيء ما مع تيقن تحققه؛ لأنه يصاحبها سعي وجد واجتهاد لتحقيق ذلك الشيء.

الرغبة إلى الله على درجات :

١- رغبة أهل الإيمان

وهي نوع من الاطمئنان بالغيبيات والماورائيات والركون إلى تصديق ما وصلك من خبر قرآني عنها أو عبر قنوات الحديث الشريف. فهي شعور تعيشه بعلم يقيني من مصدر مؤكد صدقه في داخلك إحساس بالانتماء إليه والتسليم له كإيمانك بالله والملائكة والجنة ورغبتك في أن تكون في ساحتهم، وهذه الرغبة تشدك للعمل الجاد للتقرب والوصول. وفي حال داخلت العبد رغبة في إدراك الحقيقة وسعى إليها كان من الراغبين في أن يكون من أهل الشهود، وهي المعاينة للشيء بحقيقته وكأنه يتلمس آثار الحقيقة، فيصل إلى مقام الإحسان (أن تعبد الله كأنك تراه) – (حديث شريف) لا خوفًا ولا طمعًا، وهي مرتبة عالية من العبادة، وهي فوق عبادة الخوف والرجاء. وحينها لا يفتر العبد ولا يكسل ولا يمل ولا يرغب في شيء آخر غير الحقيقة التي وصل إليها، فرغبته في إدراك الحقيقة (الغيب) تحصنه من أن يميل لشيء دونها. ومَن هذه حاله لا يرضى بشيء دون هذا المقام؛ لأن روحه تتوق للصفاء ومتوجهة نحو السمو، فتراه يجتهد في إتيان ما فيه دومًا رضا لله تعالى من أعمال صالحة برغبة وشوق ولا يمنّي نفسه بالتهاون والاكتفاء بالقليل من الصالحات.

٢- رغبة الهائمين

وهي حالة شعورية تحصل للعبد بعد تلبسه بالعمل الجاد نحو الفناء في الله، فلا يكاد العبد يقرر عن نفسه شيئًا أو أن يرى لنفسه وجودًا، وإنما كل وجوده مرهون بيقينه، فيكون صاحب همّة عالية ونفس قد اختلط فيها الشوق بالإيمان فانطلقت في رحاب الملكوت تبحث عن النور وتترصد منابع الخير لتتزود منها. وهذ الدرجة لا تعتمد على سماع الخبر لتؤمن به، بل هي تعيش معاني الإيمان الحقة التي ترى الأمور على حقيقتها؛ إن كانت خيراً فخير وإن كانت شراً فشر. وأصحاب هذه الدرجة من الرغبة لا يعرفون للكسل معنى، وليسوا كأصحاب الدرجة الأولى لا يمنّون أنفسهم بالكسل والتخاذل. فليس في قاموسهم للتعب والملل أي معنى، ولا يعرفون طريقًا إليه. فهم أهل الله الذين قال فيهم (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرض هَوْناً) – (الفرقان: ٦٣) فهم يدعون دومًااَسْاَلُكَ بِسُبُحاتِ وَجْهِكَ وَبِاَنْوارِ قُدْسِكَ، وَاَبْتَهِلُ اِلَيْكَ بِعَواطِفِ رَحْمَتِكَ وَلَطائِفِ بِرِّكَ اَنْ تُحَقِّقَ ظَنّي بِما اُؤَمِّلُهُ مِنْ جَزيلِ اِكْرامِكَ، وَجَميلِ اِنْعامِكَ فِي الْقُرْبى مِنْكَ وَالزُّلْفى لَدَيْكَ وَالَّتمَتُعِّ بِالنَّظَرِ اِلَيْكَ” – (مناجاة الراغبين) فشغلهم الشاغل هو النظر في كرم الله تعالى لا ينفكون يلتمسون العذر ليكونوا من المقربين.

٣- رغبة أهل الشهود

وهي أعلى درجات الرغبة يصل معها العاشق لمعشوقه ولا يعرف لغيره وجود، فيبذل نفسه كلها في مرضاته ولا يكتفي بإتيان الصالحات مرضاة لربه الكريم، فهي أعلى درجة من الثانية، وأهل هذه الدرجة من الرغبة وهم من وصفهم الإمام زين العابدين في مناجاة الراغبيناِلـهي اِسْتَشْفَعْتُ بِكَ اِلَيْكَ، وَاسْتَجَرْتُ بِكَ مِنْكَ، اَتَيْتُكَ طامِعاً في اِحْسانِكَ، راغِباً فِي امْتِنانِكَ، مُسْتَسقِياً وابِلَ طَوْلِكَ، مُسْتَمْطِراً غَمامَ فَضْلِكَ، طالِباً مَرْضاتَكَ، قاصِداً جَنابَكَ، وارِداً شَريعَةَ رِفْدِكَ، مُلْتَمِساً سَنِيَّ الْخَيْراتِ مِنْ عِنْدِكَ، وافِداً اِلى حَضْرَةِ جَمالِكَ، مُريداً وَجْهَكَ، طارِقاً بابَكَ، مُسْتَكيناً لِعَظَمَتِكَ وَجَلالِكَ، فَافْعَلْ بي ما اَنْتَ اَهْلُهُ مِنَ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ وَلا تَفْعَلْ بي ما اَنَا اَهْلُهُ مِنْ الْعَذابِ وَالنَّقْمَةِ“. فهم من في حالة تشوق وفناء دائمين مذهولة أرواحهم عن تلبسات هذه الدنيا.

    خلاصة: إن مقامات السلوك لله تعالى تؤنس الساعين لتحققها فيه، وتشدهم نحو عالم رحب من الفيوضات لا يستشعر بوجوده الغافلون من الناس، أو الذين لا ينتمون لذلك العالم العلوي الذي يشع نورًا وجمالًا. فمن شاء فليرغب، ومن رغب فليعمل لتحقيق رغبته، ويسعى مجداً لنيل القرب من الله، وهذا القرب لا يمنع الإنسان أبدًا من الاهتمام بأمور رعيته، كما كان يفعل مولانا أمير المؤمنين علي عليه السلام؛ حيث كان لا يغفل عن احتياج الفقراء والمعدمين من الناس ويسد نقصهم ويرفع عوزهم، وهو مع ذلك منشغل في عبادته لا يصرفه عنها حتى تلبسه بخدمة المساكين وقضاء حوائجهم، كما حصل في قضية التصدق بالخاتم، حيث أنزل الله تعالى فيها آية الولاية فقال عزّ وجلّ: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (٥٥) وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ﴾ سورة المائدة، آية ٥٥ – ٥٦

العلامات: تثقيف أخلاقي
شارك المقال:
هل وجدت هذا المقال مفيدًا ، يمكنك الاشتراك لتصلك مقالات مشابهة
مواضيع ذات علاقة
الإلحاد مشكلة نفسية ٤: نظريات الملحدين - التفسير المادي | سكينة

الإلحاد مشكلة نفسية ٤: نظريات الملحدين | التفسير المادي للإلوهية

جنود العقل والجهل الرجاء من جنود العقل وضده

جنود العقل والجهل ٥ : الرجاء من جنود العقل وضده

حياة ما بعد الموت ٤: بعث الإنسان | صحيفة الأعمال

حياة ما بعد الموت ٤: بعث الإنسان | صحيفة الأعمال

ما هو اليقين ومنازله؟

ما هو اليقين ومنازله؟

القلب السليم ٣ : الرياء والسمعة - اسباب الرياء | سكينة

القلب السليم ٣ : الرياء والسمعة | اسباب الرياء

الإلحاد مشكلة نفسية ١: علم نفس الإلحاد - أنواع الإلحاد | سكينة

الإلحاد مشكلة نفسية ١: علم نفس الإلحاد | أنواع الإلحاد

الطمأنينة والوقار | النفخ في الصور

حياة ما بعد الموت ٢: النفخ في الصور | هل تبقى الجبال أم تزول؟

أرض جديدة ٥ : حدد هدفك - هدفك الداخلي | سكينة

أرض جديدة ٥ : حدد هدفك | هدفك الداخلي

الحزن في رضا الله

الحزن في رضا الله

هل تكتب مقالات؟

تستطيع الكتابة لمساعدة الآخرين، اكتب لنا و سننشر لك مع الاعتبار لسياسة كتابة المقالات التي نتبعها

Survey
Interested in reading articles
Articles Writer