قال تعالى﴿وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً﴾ سورة المزمل – الآية ٨، معنى لفظة “التبتل“: هو التفرَّغ لعبادته، وانقطاع عن الدنيا إليه.
يرشدنا الله تعالى في القرآن الكريم لأن نتبتل إليه؛ أي ننقطع له بأفضل ما يكون الانقطاع، وأن نتفرغ لعبادته تعالى. ولو تأملنا جيدًا لوجدنا أن عملية الإخلاص في العبادة هو أمر فطري ترشدنا إليه عقولنا كسلوك طبيعي يلام من تركه ولم يبال به. ولتوضيح المطلب نقول: هب أن إنسانًا أراد أن يسافر بوسيلة ما في سفر ضروري ولأمر مهم، ولكن سفره هذا يقتضي منه السهر ليلًا ليلتحق بالطائرة مثلًا في الساعة الثالثة فجرًا، فمن الطبيعي أن يهيّئ ذلك الإنسان كل متطلبات السفر، وأن يقصد المطار متجهزًا بكل وسائل المرور الصحيحة ولوازم السفر ولا يتخلف عن الطائرة ليدرك السفر في الوقت المنصوص عليه، وتراه يحضر للمطار مبكرًا ليتجنب أي ظرف غير محسوب يخرب عليه سفرته في ذلك الوقت المتأخر. هذا التصرف عقلائي وهذا الانقطاع عن كل شيء ما عدا السفر لهو أمر في غاية التقبل عند الناس. هذا نوع من أنواع التبتل وإن لم يكن الناس قد تعارفوا على تسميته تبتلًا؛ إذ إنه قد تجرد عن كل مهماته وتخلص من كل ما من شأنه إشغاله عن السفر وفي وقت متأخر. كذلك هي أحوال الدنيا الآخرة، فلماذا لا نعتاد على توطين النفس للانقطاع عن الدنيا وما فيها لسفر الآخرة فهدفها أرقى وطريقها أطول وناتجها أعظم؟ فتأمل.
التبتل إلى الله على درجات:
١- الانقطاع عن الناس حال العبادة: وليس المطلوب من الإنسان هنا أن يترك مسئولياته الحياتية أمام النفس والأهل والناس وينكفئ منقطعًا في صومعة أو مسجد على أمل أن يتجرد من كل ما يكبّله عن الانطلاق نحو العروج إلى الله. وإنما المطلوب هو أن يكون في كلِّ أوقاته عابدًا لله تعالى حتى وهو يمزح مع الصغار أو يناجي الكبار أو يخدم الضعيف أو يستمع لمكلوم أو يأخذ بخاطر مظلوم أو غيرها من صور الانشغال بالحياة، فكلها حال اقترانها بنية القربى لله هو منقطع في عبادته لله ومتوجه له، وما عليه إلا الإخلاص في نيته لينال الثواب الجزيل. أما في حال عبادة الصلاة فنهيئًا لمن حبس طير خيالاته من الرفرفة وأتقن التركيز فيها خلال أدائها، واستحضر قلبه مفعمًا بحب التواصل مع الذات المقدسة ليصل ويناجي وينقطع ويتزود، ومن ثم يعود لدنياه ومسئولياته الحياتية بكل عنفوان وطاقة إيجابية. وكما أن الانقطاع عن الناس حال العبادة أمر مطلوب كذلك عدم طلب الخير منهم دون اللجوء إلى الله تعالى هو أمر راحج أيضًا. من هنا يربي العبد نفسه على مفاهيم حياتية جديدة تنهض به وتقومه ليصل إلى الرضا التام بما قسمه الله تعالى له، فيستغني عمّا في أيدي الناس ويشعر نفسه وقلبه وروحه بالتسليم المطلق لله تعالى، فيلجأ إليه دون غيره من الناس فيما يخص حياته وآخرته.
ومرة أخرى نذكّر بأن هذا الأمر لا يتنافى مع الأخذ بالأسباب الطبيعية في الحياة كلجوء المريض للطبيب والطالب للمعلم والجاهل للعالم واحتياج الناس في تيسير أمور معايشهم لبعضهم بعضًا، فهذا أمر عقلي لا يتنافى مع الدين في شيء، وإنما المقصود هو التذلل للناس لقضاء حاجة ما والوقوع في طلب يذهب ماء الوجه أمام الناس. فمعاملة الإنسان معاملة الند بالند أمر بديهي كأن يدفع مالًا مقابل خدمة أو بضاعة ما.
٢- الانقطاع عن النفس: وهذا المقام يحتاج إلى ترويض وتمرين؛ لتعتاد النفس على الكف عن اتباع الهوى والسعي إلى تحصيل ما لذ وطاب وإن كان من حلال. فكثيرة هي الملذات المحللة في حياة الإنسان ولا لوم على الإتيان بها والسعي إلى تحصيلها؛ ذلك أن القرآن الكريم أرشد الإنسان بأن ينال نصيبه ممّا طاب وطهر من ملذات الدنيا ﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ سورة الأعراف – الآية ٣٢. غير أن العكوف عليها والانشاغل بها قد يبعد الإنسان عمّا هو أفضل منها في نظر العقل والشرع. ولتوضيح المطلب نضرب المثال الآتي: هب أن إنسانًا يعمل بالحلال ويستحصل رزقه ورزق عياله بما فيه رضا الله تعالى، ويقوم على خدمة المؤمنين حتى يتعب ويضنأ طوال يومه، وهو بهذه الحال لا يرتكب محرّمًا ولا يفوّت واجبًا. لكن هذا الإنسان مع ذلك كله لا يستطيع أن يتفرغ ليستزيد علمًا ولا يوفق للتقرب ليلًا من كثرة الانشغال والتعب. هنا لابد من التذكير بأن على الإنسان أن يكون ذكيًا في توزيع أوقاته وحصيفًا في اختياراته، فلا يترك ما هو أفضل للمفضول، وأن يقوم بتقييم الأمور بشكل سليم حتى لا تفوته الفرصة في التقرب إلى الله تعالى ومناجاته والتزود من نوره الذي يمده بكل ما يحتاجه خلال أنشطته اليومية. كذلك هي حال الإنسان الذي يشبع بطنه من الأكل الحلال ليلًا، ومن ثم لا يوفق لقيام الليل، فهو لم يأت بمحرم ولكنه قد فضل المفضول على الأفضل، وهو أمر عند العقلاء قبيح، وعند الشرع يعد فاعله غافلًا عن ذكر الله تعالى. فمخالفة الهوى تحتاج إلى يقظة وانتباه دائمين، فكثيرًا ما ننشغل عن عواظم الأمر وبتوافه الأمور فنخسر الكثير دون أن نشعر.
٣- الأنس بنور تجليات الحق تعالى وفيوضاته: ومن أرفع درجات التبتل هي الاستئناس بالنور الذي يدخل قلوب الذين سلكوا وعرجوا وعرفوا الطريق نحو الله تعالى. هذا النور الخفي الذي لا يعرف صفته إلا من استنشق عبيره لا يحصل لأي عبد كيفما اتفق، بل يأتي بعد توكل وجدٍّ ورياضات روحية يمارسها العبد بينه وبين ربه مخلصًا له ومنقطعًا عن الدنيا إليه ولا يرى غيره حال الاختلاء به. وربما يتساءل القارئ الكريم هل هذا المستوى من التوجه متاحًا لأي إنسان أم هو من مختصات الأولياء؟ نُجيب: لتكن من الأولياء، وما الذي يمنع أن تكون من الأولياء! هذا أولًا. وثانيًا لتعلم بأن طريق العروج ليس له حد، فكلما تنبهت أخلصت، وكلما أخلصت سعيت، وكلما سعيت تقربت، وكلما تقربت وصلت، وكلما وصلت ناجيت، وكلما ناجيت حظيت، وكلما حظيت استأنست حتى تكون من أهل الخاصة في الله، وأنت على ما أنت عليه من كونك أستاذًا أو طالبًا أو ربة منزل أو غيرها من الصفات الحياتية المستلزمة للانشغال، فتأمل.
وكثيرون هم الذين تذوقوا حلاوة القرب بما يقومون به من جهد بسيط ولكن بإخلاص كبير، فلو وضعت لنفسك برنامجًا سلوكيًّا مع الله تعالى تهذّب به نفسك أمامه وتتصرف بأنبل ما يكون التصرف في حضرته تعالى في نومك ويقظتك، حركتك وسكونك، كلامك وصمتك، فأعطيت الصدقة سرًّا دون أن تعلم شمالك ما صرفت يمينك. ولو رددت التحية بأحسن منها امتثالًا لأمر الله تعالى واستجابة، ولو توقفت لتستمع لشكوى أحد أحبابك دون تأفف وبإصغاء مرضاة لله تعالى، ولو وصلت رحمك وتعطّفت على ضعيفهم ووصلت قاطعهم احتسابًا للأجر ونيل المثوبة؛ لكان لتلك الأفعال أثرها الإيجابي على حياتك اليومية فتنال رضا الله تعالى وتكون من عباده الصالحين وكذلك تكون حسن السيرة بين الناس وتستشعر حلاوة الفيوضات الربانية التي تصرف لك لقاء مجاهداتك.
الخلاصة: إن مسألة التبتل إلى الله والانقطاع إليه لا تحتاج إلى أن تهجر الناس وتعيش في كهف مبتعداً عن مسئولياتك اليومية والحياتية، بل تتطلب منك أن تعيش بينهم ومعهم وفيهم ومن أجلهم دون أن تغفل عن واجبك تجاه ربك الذي يجب أن يهيمن على كل تصرفاتك. وهو أمر يحتاج إلى التدريب والتمرين بروح رياضية مفعمة وبجد واجتهاد كبيرين وعدم اليأس حال التعب وعدم الإصغاء لوسوسة الشيطان الرجيم الذي لا يريد لك الوصول إلى هدفك.