” داء الكبر”
نلتقي اليوم بداءٍ قلبي وهو من الأمراض الباطنية الشديدة الوطء على الروح والقلب، وهو داء الكِبر، وهو حالة نفسية باطنية تظهر لدى الإنسان جرّاء رؤيته وتقييمه لذاته أنَّهُ أكبر وأعظم وأسمى مرتبةً من الآخرين، فيتكئ على هذا الوهم الخطير ويفخر بذاته، بينما غيره لا قيمة ولا منزلة لديه، وخباثة هذا الداء الباطني أنه أصلٌ للكثير من الصفات الذميمة والخصال الحيوانية القبيحة، التي تجعل الفرد المبتلى به غافلاً عن حالة العبودية وحالة الإحتياج المطلق لخالقه، وللتنبيه أن حالة الكِبر هي حالة باطنية محلها القلب، وما التكبر إلا إنعكاس لتلك الصفة الذميمة، وهذه بعض الأمثلة الحياتية التي تظهر من خلالها حالة الكِبر والتكبر في الإنسان:
١ـ الفخر بالآباء، وهو يندرج تحت فخر الإنسان بنسبه وحسبه، وقد كانت هذه الخصلة القبيحة متجذرةٌ لدى العرب وصاحبتهم عبر تاريخهم حتى في حضور النبي (ص).
٢ـ الكِبر في القول، وهو أن يكون شعور المتكلم وتوقعه أنه إذا حدّث أحدًا بحديث فلا بد من الإصغاء إليه بل وقبوله دون نقاش أو تردد من الطرف الآخر، و لو نصحه أحدهم لرد: أمثلي أنت تنصحه، أمثلي أنت توجهه نحو الخير، و أمثال هذه النماذج كثيرة بيننا .
٣ـ الكِبر في الأفعال، وهو أن تصل حالة التضخم الذاتي للفرد إلى أن يمشي بطريقة ملفته لنظر الناس بحركة تميّزه عن الآخرين، وينفرد بها عن الناس و يُعرف منها قطعًا أنه يمشي بخيلاءٍ و ترفع.
وهذه بعض الصور لما قد يقدم عليه مَنْ تلبّس بالكبر وظهرت عليه آثاره على المستوى الخارج:-
أ. أن يتقدم أقرانه عندما يمشون.
ب. أن يحب تصدر المجالس أو أن يترك فاصلاً بينه و بين جلسائه بحيث يتأفف لو اقترب جليسٌ منه.
ج. أن يأنف من مشاركة الآخرين في طعامه لا لمرضٍ فيهم ولا لإمور مقززة تصدر عنهم إنما شعورٌ بالترفع والتميّز من غير إستحقاق .
د. أن لا يزور أرحامه ذوي المستويات المادية المتدنية بل يتوقع دائمًا أن يكون هو قبلتهم.
هـ. أن لا يبدأ الآخرين بالسلام وينتظر أن يبدأوا هم بالتحية والإجلال.
وفي الجملة أن وعي الناس وبصيرتهم النافذة قادرة على فرز مثل هؤلاء المرضى المساكين ممن يرون في أنفسهم تميّزًا عن بقية خلق الله سبحانه، ويحسن بنا أن نتعرف على ما يقوله القرآن الكريم عن هذه الصفة الخسيسة والذميمة وأصحابها:-
١- قال تعالى (وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) سورة الحديد، آية 23.
٢- قال تعالى (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) سورة القصص، آية 83.
٣- قال الله تعالى على لسان موسى (وَقَالَ مُوسَىٰ إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ) سورة غافر، آية 27.
وبالنظر الأولي في هذه الآيات الكريمة يتبين لنا مدى قبح الكبر والمتكبرين، وأنها صفة منحطة لا يتلبس بها إلا الفاجر والمتجبر، ومن لا يؤمن بالآخرة ولا يرى لربه عظمة وكبرياء وهيمنة على مطلق الوجود، أمّا الروايات فهي تعطي بيانًا آخر أنّ المعصومين كان ردهم على من يتصف بالتكبر شديدًا وغليظًا لا مجاملة فيه على الإطلاق ولنتمعن في هذه الروايات الشريفة:
١- جاء عن الإمام الصادق عليه السلام: أتى رسول الله صلى الله عليه وآله رجل فقال: يا رسول الله، أنا فلان ابن فلان حتّى عدّ تسعة. فقال له رسول الله صلى الله وآله : أما إنّك عاشرهم في النار.
٢- عن الإمام الصادق عليه السلام قوله: مامن رجل تكبّر أو تجبّر إلّا لذلّةٍ وجدها في نفسه.
٣- عن جابر بن عبدالله قال: مرّ رسول الله صلى الله عليه وآله برجل مصروع، وقد اجتمع عليه الناس ينظرون إليه ، فقال صلى الله عليه وآله: علام اجتمع هؤلاء؟ فقيل له : على مجنون، فقال: ما هذا بمجنون، ألا أخبركم بالمجنون حقّ المجنون؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال صلى الله عليه وآله: إن المجنون حقّ المجنون: المتبختر في مشيه، الناظر في عطفيه، المحرّك جنبيّه بمنكبيه، فذاك المجنون، وهذا المبتلى .
٤- عن الإمام الباقر عليه السلام قوله: ما دخل قلب امرئ شئ من الكبر إلّا نقص من عقله مثل ما دخله من ذلك ، قلّ ذلك أو كثر.
وختامًا هذه بعض النقاط الإرشادية التي ينبغي لمن يريد النجاة من الكِبر أن يقوم بها، وإن كانت قاسيةً عليه وشديدة الوطء، لكنّها ستساعده في النزول من وهم التكبر والعيش مع الخلق بكل تواضع و إحترام.
١- أن يبادر جميع من يلقاه بالسلام صغيرًا كان أو كبيرًا فقيرًا أو غيره.
٢- أن يسعى قدر طاقته ليكون خادمًا لا مخدوماً فيقوم بكل شؤونه الخاصة بل ويضم خدمة خلق الله أيضًا إلى يومياته لعل شيئًا من وهم التميّز ينكسر فيغدو قريبًا من مجالس المتواضعين والبسطاء.
٣- أن لا يخصص له مكانًا في المجلس ولربما كان الكثير منا به شيئًا من الكبر و التميّز الواهم فأن جلس أحدهم مكانه قبله أصابه ضيقًا في القلب وانقباضًا في النفس فليلجأ لمكانٍ آخر قهراً لتلك الرغبة النفسية الفاسدة.
٤- أن يحسن معاشرة الناس فإن في ذلك تذللاً و نزولاً عند عامة الخلق و هم مستويات متباينه فلعل حسن المعاشرة مع الناس يفتت شيئاً فشيئا صنم الكبر بداخله.
نسأل الله أن يجعلنا في زمرة عباده الصالحين الواعين لحقيقة العبودية لله وما تستلزم من خضوع وذلة وتواضع و الحمدلله أولا و آخراً.