الاضطرابات العقلية والدين الإسلامي ١
ثمة فرق بين المرض النفسي الناتج عن تحولات كيميائية أو جينات وراثية وبين المرض النفسي الناتج عن اختلال في طريقة التفكير علمًا بأنَّ هذا النوع إذا ما طال أمدُهُ بسبب لوثةٍ عقليةٍ مثلًا أو فكرة خاطئة واستمرتْ لمدة زمنية طويلة دون محاولة تصحيح مسار هذا التفكير فقد يتحول لاحقًا إلى تحولات كيميائية ويصبحُ مرضًا نفسيًا من النوع الأول، وفي هذا المقال سنتناول بإذن الله تعالى النوع الثاني الناتج عن غبش يؤدي إلى تفكيرٍ سقيمٍ، وثمَّ يتحول إلى مشاكل نفسية قبل أن يتحولَ إلى النوع الأول.
طريقة التفكير السليمة هي التي تساعد الإنسان على معالجة المشاكل بأسلوب صحيح وأن يحيا حياة كريمة وسعيدة أما التفكير السقيم فهو ما يقود صاحبه إلى مشاكل لا حصر لها وقد يؤدي في نهاية المطاف إلى اضطرابات نفسية وسلوكية، لكن ما الذي يجعل البعض ينتهج تفكيرًا سليمًا وآخر ينتهج تفكيرًا سقيمًا؟
الإجابة على هذا السؤال قد تحتاج إلى مجلدات ولا يمكن حصرها في هذا المقال فضلًا عن فقرة في مقال لكن باختصار نستطيع أنْ نقول: أنَّ من أهم الركائز التي تلعب دورًا بارزًا في جعل المرء ذا تفكيرٍ سليمٍ هي البيئة والأسرة ذات القيم والمبادئ، والتحصيل الثقافي الجيد والالتزام الديني القائم على استيعاب صحيح لمفاهيم الإسلام.
ومحور مقالنا هو عنصر المفاهيم الإسلامية التي تقي من الاضطرابات النفسية حيث تناول دين الإسلام من خلال القرآن الكريم والسنة النبوية متبوعة بسيرة الأئمة الأطهار عليهم السلام جميع مناحي الأمور النفسية وبادر إلى معالجتها بنصوص قرآنية، وأحاديث وأدعية سدَّت الفسيح وأثرت الحياة الإنسانية بكم هائل جدًا لم تترك بُعدًا إلا وتطرقتْ إليه وكل ما عليك عزيزي القارئ سوى التأمل في هذا الإرث العظيم والكنز الثمين وتعمق في سبر معانيه.
لا يمكن أن تُهزمَ إرادةُ مسلمٍ مؤمنٍ مستوعبٍ لمفاهيم الإسلام بشكلٍ صحيح أمام أي ظرف متغير مهما اشتد وضاق عليه الخناق وتأزم الموقف، لذلك يقول الله في محكم كتابه (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً) طه:124، لكن هناك فرق بين من يؤدي الواجبات والشعائر الدينية دون أن يستوعب المفاهيم والمعاني لتلك الشعارات وهذا هو معنى الذكر في الآية الكريمة (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي) أي أن يتحول الذكر إلى سلوك ومنهجية حياة لا مجرد لقلقة لسان، وهذا ما يجيب على إشكال طالما تردد طرحه، وهو: هناك الكثير ممن هم بعيدون عن الدين لكن حياتهم مستقرة وسعيدة على الأقل ظاهريا فكيف يقول الله (لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً) فربما هناك من يقول هذا تناقضٌ صريحٌ، فهذا الملحد بعيد عن ذكر الله وهو سعيد، فنقول: إنَّ أمثال هؤلاء يطبقون مفاهيم الدين الإسلامي [الذكر] دون أن يدركوا كمن يعمل في التجارة ويطبق نظريات علم إدارة الأعمال دون أن يدرس بكالوريوس إدارة الأعمال، فقد توصل بفطرته وذكائه إلى مثل هذه المبادئ المؤصلة اليوم بشكل علمي، هو هو نفس إشكال أولئك البعيدون عن الدين الذين يطبقون مفاهيمه دون أن يعلموا، لهذا قد يصيب المرض النفسي المؤمن لأنه بعيد عن معاني [الذكر] وقد يحيا من هو بعيد عن الدين بصحة عقلية لأنه يطبق مفاهيم [الذكر] دون أن يعلم.
إن الله يريد لعباده أن ينعموا بسعادة الدنيا والآخرة وهذا يحتاج إلى فهم صحيح، لكن هل السعادة متوقفة فقط على استيعاب صحيح لمفاهيم الإسلام أم أنَّ الأمر بحاجة إلى عمل أيضًا (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ) الرعد:11، ودون ذلك لن تستقيم الحياة ولا الآخرة، لهذا يجب أنْ ندرك أنَّ عنصر الفهم الصحيح ليس بكافٍ لوحده، وإنما نحن بحاجةٍ لعملٍ حتى تتحولَ المفاهيمُ إلى سلوكٍ، ويستطيعُ المرءُ من خلال ذلك الإيمان بالمفاهيم الانضباط والسيطرة على سلوكه.
هذا المقال هو عبارة عن مقدمة لسلسلة الاضطرابات العقلية والدين الإسلامي إذ سوف نتناول معًا بإذن الله مقالات في ذات السياق بشكل تفصيلي بتوفيق المولى عز وجل.