أبسط السبل
أبسط السبل للاعتقاد بإمكان الارتباط بالخالق هو وسيلة المرسلين، فقد دعا الانبياءُ جميعًا الناس إلى التقرب من الخالق والارتباط بمنبع العلم والقدرة اللانهائيين، ووعدوهم بالوصول إلى النعم الخالدة والسعادة الأبدية (لَهُمْ مَا يشَاءوُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلكِ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ) (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىَ).
كما أنَّ السبب الرئيس لرفض الكافرين لدعوة الأنبياء هو استبعاد هذه الحقيقة (وقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكم عَلى رجُلٍ يُنَبِّئُكم إذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إنَّكم لَفي خَلْقٍ جَدِيدٍ) (أَفْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَم بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي العَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ).
لم يكتف الرسل بالدعوة فحسب بل عرضوا آثار من الارتباط بالعالم الربوبي والمنبع اللانهائي للعلم والقدرة، ليُعُلم أن كسب العلم والقدرة لا ينحصر بالاسباب المادية المحدودة، فأخبروا بالمغيّبات وكشفوا أسرارا خفيّة دون دراسة وتعلم (وَعَلَّمَ ءَادَمَ ٱلأَسمَآءَ كُلَّهَا) (وَعَلَّمنَٰهُ مِن لَّدُنَّا عِلما) (وَءَاتَينَٰهُ ٱلحُكمَ صَبِيّا) والقرآن نفسه فوق ذلك، كما أن معجزات الانبياء أثبتت عمليًا إمكان الخلاص من القيود المادية والحصول على قدرة لا تقهر.
مع كل تلك الشواهد والأدلة هناك منكرون لعالم ما وراء الطبيعة وامكانية الارتباط به، وكان الأحرى بالبشرية تطبيق تعاليم الانبياء ولو من باب التجربة وتقييمها خصوصًا أنَّها تضمن سعادة الدارين.
شواهد من الآيات والروايات
هذا الذي استفدناه من المقدّمات الوجدانيّة والعقليّة يؤيّده الكتاب والسنّة، كما أشرنا، وهنا نماذج أخُرى:
- القرآن يؤكد على أنَّ الانسان يعرف الله بفطرته، وأنَّ الناس كلهم في نشأة من وجودهم رأوا خالقهم عيانًا واعترفوا بربوبيته (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلَى)، وأن الحياة في هذا العالم إنما هي للعمل بمقتضى عهد العبودية ويحصل تقويم مقدار وفاء الناس بعهدهم وميثاقهم الفطريّ، وبالتالي تكاملهم الاختياريّ بواسطة الطاعة والعبوديّة لله (ومَا خلَقتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدوُن)، وليحصل هذا التقويم فإنّ ثمّة ظروفًا مختلفة ليختار كلٌّ سبيله بكلّ حرّيّة (لِيَبلُوَكُم أَيُّكُم أَحسَنُ عَمَلٗا).
- لن يصل إلى السبيل الأقوم الآمن إلّا أولئك الذين يحبّون ربّهم،، ويبتغون مرضاته (وَٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَشَدُّ حُبّا لِّلَّهِ) (فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱللَّهِ وَٱعتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدخِلُهُم فِي رَحمَة مِّنهُ وَفَضل وَيَهدِيهِم إِلَيهِ صِرَٰطا مُّستَقِيما).
- هؤلاء سينالون كذلك جوار رحمة ربّهم ومقام القرب الإلهيّ عند لقاء الحبيب (يأَٰٓيَّتُهَا ٱلنَّفسُ ٱلمُطمَئِنَّةُ ٱرجعِيِٓ إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَة مَّرضِيَّة فادخُلِي فِي عِبَٰدِي وَٱدخُلِي جَنَّتِي) (فِي مَقعَدِ صِدقٍ عِندَ مَلِيك مُّقتَدِر).
- أمّا الذين تعلّقت قلوبهم بزينة الدنيا ورجّحت محبّة الآخرين لديهم على محبّة الله، فلا شوق لهم إلى رحمته، فسيعذبون ويُحرمون من وصل محبوبهم الفطريّ (كَلَّآ إِنَّهُم عَن رَّبِّهِم يَومَئِذ لَّمَحجُوبُونَ).
كما توجد في الأحاديث النبويّة وأخبار أهل بيت الرسالة سلام الله عليهم أجمعين أيضًا شواهد كثيرة، نجد نماذج منها في بعض الأحاديث القدسيّة كذلك، ومنها مناجاتهم وأدعيتهم عليهم السلام:
- يقول أمير المؤمنين عليه السلام في المناجاة الشعبانية: “إلهي هب لي كمال الانقطاع إليك وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك حتّى تخرق أبصار القلوب حجب النور فتصل إلى معدن العظمة وتصير أرواحنا معلّقة بعزّ قدسك“.
- ويقول الإمام الحسين عليه السلام في يوم عرفة: “مَتى غبْتَ حَتَّى تَحْتاجَ إِلى دَلِيلٍ يَدُلُّ علَيْكَ؟! وَمَتى بعُدْتَ حَتَّىَّ تَكُونَ الآثارُ هِيَ الَّتِي تُوصِلُ إِلَيْكَ؟! عَمِيَتْ عَيْنٌ لا تَراكَ عَلَيْها رَقِيبًا! وَخَسِرَتْ صَفْقَةُ عَبْدٍ لَمْ تَجْعَلَ لَهُ مِنْ حُبِّكَ نَصِيبًا!
- ويقول الإمام زين العابدين عليه السلام في مناجاة الخائفين: “وَلا تَحْجُبْ مُشْتاقِيكَ عَنِ النَّظَرِ إِلى جَمِيلِ رُؤْيَتِكَ”، وفي مناجاة المحبّيّن: “إِلهِي فَاجْعَلْنا مِمَّنِ اصْطْفَيْتَهُ لِقُرْبِكَ… وَمَنَحْتَهُ بِالنَّظَرِ إِلى وَجْهِكَ وَحَبَوْتَهُ رِضاكَ، وَأَعَذْتَهُ مِنْ هَجْرِكَ وَقَلاكَ وَبَوَّأْتَهُ مَقْعَدَ الصِّدْقِ فِي جِوارِكَ… وَاجْتَبَيْتَهُ لمُشاهَدَتِكَ… وَامْنُنُ بِالنَّظَرِ إِلَيْكَ علَيَّ”، وفي مناجاة المتوسّلّين: “:وأَقْرَرْتَ أَعْيُنَهُمْ بِالنَّظَرِ إِلَيْكَ يَوْمَ لِقائِكَ وَأَوْرَثْتَهُمْ مَنازِلَ الصِّدْقِ فِي جِوارِكَ”، وفي مناجاة المفتقرين: “وَغُلَّتِي لا يُبَرِّدُها إِلّا وَصْلُكَ، وَلَوْعَتِي لا يُطْفِيها إِلّا لِقاؤُكَ، وَشَوْقِي إِلَيْكَ لا يَبُلُّهُ إِلّلنَّظَرُ إِلى وَجْهِكَ إنّ النشاطات الحياتيّة في الحقول العلميّة والعمليّة المختلفة، الفرديّة والاجتماعيّة، إنّما تُعدّ نشاطات إنسانيّة إذا كانت في إطار السير بالإنسان إلى كماله الحقيقيّ.
على أنّ السير التكامليّ للإنسان يحصل بمعونة القوى الداخليّّة والدوافع النفسيّّة الموجودة في أعماقه، فإنّ اتّجاه الميول الفطريّةّ يُعدّ أفضل سبيل لمعرفة الهدف النهائيّ والكمال الحقيقيّ للإنسان، وعبر التأمّل في الوجهة التي يشير إليها أيٌّ من هذه الميول، نعرف أنّها جميعًا تسوق الإنسان نحو اللّانهاية، وأنّ إشباعها مؤقّتًًا ومحدودًًا لا يقنع الإنسان بشكل كامل، ولا يحصل إشباعها تمامًا إلّا بالاتّصال بمنبع العلم والقدرة اللانهائيّن.
فالتعلّق بنور العظمة الإلهيّة لوحده هو المجال الذي يشاهد الإنسان من خلاله حقيقته هو وكلّ عوالم الوجود قائمةً بالذات الإلهيّة المقدّسة، “وأفتح عين قلبه إلى جلالي وعظمتي، فلا أُخفي عليه عِلْمَ خاصّة خلقي“، عندئذٍ يُشبِع ميله لاستطلاع الحقيقة، وكذلك يصل إلى حقيقة نفوذ القدرة الإلهيّة اللّانهائيّة من خلال إرادته ،فهو يفعل ما يريد بإذن الله تعالى “أجعلك تقول للشيء كن فيكون“، فيُشبِع ميله للقدرة التي لا تُقهر وفي هذه المرتبة يصل إلى محبوبه ذي الجمال والكمال اللامتناهي، ويجد نفسه في أحضان اللّطف والعناية اللامحدودة، فيروي بذلك ظمأه وحاجاته كلّها، وما أروع هذا الإشباع بيد المعشوق يصحبه اللطف الغامر والحب العميم: “فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به“.