قال تعالى (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةَ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً) سورة الفجر، آية ٢٧، الرضا عكس السخط، وللرجوع إلى الله تعالى لابد من الرضا التام، والرضا يعني ألا يصدر من العبد ما فيه مخالفة لأمر وحكم رباني لا على صعيد العمل ولا التفكير، ولا حتى الهاجس النفسي، بحيث إن العبد لا يقدم ذاته على ربه في أي أمر ولو كان خلاف مصلحته وفيه مشقته، بل يستأنس بما اختاره الله تعالى له ويرى فيه فلاحه.
الرضا يعني ألا يطلب العبد أن يحوله الله تعالى من حال إلى حال، ولا يطلب منه تغير ما هو عليه استسلامًا وانقيادًا وتسيلمًا، الرضا يعني ألا يدخل العبد في تردد في قبال ما كتبه الله تعالى حين يعلم العبد بأن الله اختار له ذلك فإنه يمضي نحو ما ابتغاه الله تعالى من دون تمهل ولا تردد، الرضا يعني ألا يطلب العبد من ربه زيادة في مقام ولا حال من أحوال الدنيا، بل يقنع بما أعطاه الله تعالى تمام القناعة.
الرضا على درجات ومنازل:
١- الرضا بالله تعالى ربًّا
وهي أولى مراتب الرضا التي لا تتحقق المراتب الأخرى إلا بها. فمن دون الاقتناع بأن الله سبحانه وتعالى هو الخالق والمصور والرازق والمالك، ومن دون الرضا به إلهًا وربًا وسيدًا وصمدًا لا تتحقق العبودية الصحيحة، والصدق من العبد تجاه ربه، وهذا المطلب يخرج العبد من الشرك الأكبر ويطهر النفس به. وهو ما دأب الأولياء تلاوته خلف كل صلاة في قولهم: “ رضيت بالله ربًّا، وبمحمد نبيًّا، وبالإسلام دينًا، والقرآن كتابًا، وبالكعبة قبلة…” المجلسي، بحار الأنوار، ج٨٣ ص٤٢.
ويصح الرضا بتوافر ثلاثة شروط:
● ألا يكون للعبد شيء أحب من الله تعالى: فحب الله تعالى يصحح إيمان العبد ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ﴾ سورة البقرة، آية ١٦٥. فلا يتحقق معنى الرضا والعبد ذائبًا في ملذات الدنيا وفنائها فتراه يقدم هواه على أمر الله تعالى، وكثيرًا ما ينشغل العبد عن الصلاة في وقتها إما بعمل أو انشغال بدنيا أو بلهوٍ ولعب.
● ألا يرىدونه عظيمًا: وتعظيم الله تعالى يصحح الإحسان ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾ سورة النساء، آية ١٢٥.
● ألا يطيع أحدًا غيره: وإطاعة الله تعالى تصحح الإسلام ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ ۖ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾ سورة آل عمران، آية ٣٢.
٢- الرضا عن الله تعالى في كل ما قضى وقدّر
ولا يكون رضا العبد عن ربه إلا برضا الله تعالى عن عبده ﴿رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾ سورة التوبة، آية ١٠٠. وفيه لا يكون للعبد شأن فيما يخصه بل كل ما يعنيه إنما هو مكتوب ومقدر له والعبد في هذه الدرجة يتناول ما قضى الله تعالى عليه قابلًا قانعًا راضيًا ولا يحدث نفسه ولو بشيء قليل من الحديث حول ما أعطاه الله تعالى وفرض له في أمر الدينا والآخرة.
● وفي هذه الدرجة تتساوى عند العبد الحالات التي يمر بها، فلا يفرح لأمر مرغوب ولا يحزن بفواته. ولا يصيبه السأم ولا الملل ولا الهم ولا الغم حال وقوع مكروه معين، فهو متحكم في نفسه لأن النعمة والبلاء عنده على حد سواء، والشدة والرخاء عنده سيان، والسراء والضراء في قاموسه على درجة واحدة؛ لأن العبد لا يريد إلا ما يريد الله، فهي درجة عالية من العبودية الحق والتسليم المطلق. غير أن هذه الدرجة من الرضا لا تنال بالسهل ولا تستحصل من دون مشاق، ولا يمكن توافرها من دون المرور ببرنامج عبادي وأخلاقي عملي طويل وشاق والتعرض إلى امتحانات عسيرة، فيخفق العبد في بعضها ويتجاوز بعضها بنجاح، وكلها ابتلاءات ربانية صادرة لمصلحة العبد.
● ومن منازل هذه الدرجة أن يتجنب العبد خصومة ومحاججة الخلق ويبتعد عن التماس مع الناس فيما يختلفون فيه ولا يلح في طلب الدنيا من الناس ولا يسأل أحدًا من العباد شيئًا، ولا يحسدهم على ما في أيديهم من النعمة، ولا يمد عينيه إلى ما متع الله به بعضهم من النعيم.
٣- الرضا برضا الله تعالى
“رِضَا اللَّهِ رِضَانَا أَهْلَ الْبَيْتِ، نَصْبِرُ عَلَى بَلَائِهِ وَيُوَفِّينَا أُجُورَ الصَّابِرِينَ“(من خطبة الإمام الحسين (عليه السلام) لما عزم على الخروج من مكة إلى العراق. المجلسي، بحار الأنوار، ج ٤٤، ص ٣٦٧) هكذا هو حال من ربوا أنفسهم في علاقتهم بالله تعالى.
● في هذه الدرجة من الرضا، وهي أرفع درجة، لا تكون للعبد فيها إرادة، فإرادة الله تعالى حلت مكانها. ورضاه تعالى مقام رضا العبد وسخطه مكان سخط العبد.
● هم يسيرون بمفهوم الآية الشريفة: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ﴾ سورة التكوير، آية ٢٩ فلا يرون لأنفسهم مقامًا ولا مشيئة ولا يقيسون أنفسهم أمام عظمته وجبروته.
● هم يتركون التشهي ويغلبون أهواءهم بتقديم ما يحب الله تعالى على ما يحبون.
● هم ينظرون إلى إرادة الله تعالى التي هي محض خير لهم على أنها الشيء الذي يحبون وإن أدخلهم النار! فمن هم هؤلاء وكيف وصلوا إلى درجة سحق الذات أمام الخالق؟
● لأنه محبوبهم الأوحد صاروا لا ينفكون عن التطلع إليه ليل نهار، وفي كل لحظات حياتهم يلتمسون نوره الذي يتغلغل في قلوبهم وضمائرهم، فيكون الله بصرهم الذي يبصرون به وسمعهم الذي يسمعون به وأيديهم التي يبطشون بها.
● هم لا تشغلهم الدنيا عن قربه وإن كانوا منشغلين بأداء واجباتهم اليومية فلقد عقدوا مع الله تعالى عقدًا صفت به قلوبهم له من دون غيره، واضمحل به وجودهم أمام وجوده، فهم على الدوام ذاكرون شاكرون مسبحون مستغفرون.
● هم الذين يكون نظرهم للسماء دائمًا، وإذا تطلعوا نحو الأرض والخلق فلأنهم يريدون بذلك وجهه الكريم ليؤدوا الواجبات التي عليهم تجاه الخلق.
● ومن أصدق من محمد وآل بيته الطاهرين ليكونوا خير من رضي الله تعالى عنه ورضي هو عن الله. جاء في المناجاة الشعبانية لأمير المؤمنين عليه السلام: “وإن أدخلتني النار أعلمت أهلها أني أحبك“.
الخلاصة: بمقام الرضا يدخل الأناس العاديون العامون أمثالنا لمقام السالكين، فهو بداية طريق السائرين نحو الله تعالى، وهو من أشق المقامات على العباد العاديين. ولتحصيلها يحتاج العبد إلى روح عالية وتوفيق رباني وهداية لا تنفك ولا تتخلف، وجد واجتهاد ومثابرة وتمرين وعمل متواصل. ودوام الشكر والذكر والاستغفار والدعاء كلها توصل العبد لمقام الرضا وإن طال به العهد، فتأمل!