سبل السلام

الإمام الصَّادق (عليه السَّلام): «من سعادة الرَّجل أنْ يكون الولد يُعرف بشبهه، وخَلْقِه، وخُلقه، وشمايله». 

(ميزان الحكمة 4/224، الريشهري)
الإرادة

الإرادة في التقرب إلى الله

قال تعالى﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ﴾ سورة الإسراء، آية ٨٤، تعريف لفظة شاكلة: سجيّة وطبيعة، طريقة ومذهب، قال تعالى ﴿فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾ سورة الروم، آية ٣٠. فالشاكلة هي الغريزة والفطرة، ولكل فرد من الناس فطرته الخاصة به، ولأن الناس مختلفون في مستوياتهم ومواقعهم من الله، صار المريدون أنقى الناس فطرةً. جاء في مناجاة المريدين: “فَبِكَ اِلى لَذيذِ مُناجاتِكَ وَصَلُواالإمام زين العابدين (عليه السلام)، الصحيفة السجادية.

الإرادة هي الرغبة الحقيقية النابعة من صميم قلب العبد بشوق ولهفة للوصول للهدف، فالإرادة مستوىً راقٍ من العزم المبني على القصد رغبة وتشوقًا. جاء في مناجاة المريدين: “اَسْاَلُكَ أن تَجْعَلَني مِنْ اَوْفَرِهِمْ مِنْكَ حَظًّا، وَاَعْلاهُمْ عِنْدَكَ مَنْزِلًا، وَاَجْزَلِهِمْ مِنْ وُدِّكَ قِسْمًا، وَاَفْضَلِهِمْ في مَعْرِفَتِكَ نَصيبًا، فَقَدِ انْقَطَعَتْ اِلَيْكَ هِمَّتي، وَانْصَرَفَتْ نَحْوَكَ رَغْبَتي، فَاَنْتَ لا غَيْرُكَ مُرادي، وَلَكَ لا لِسِواكَ سَهَري وَسُهادي، وَلِقاؤُكَ قُرَّةُ عَيْني، وَوَصْلُكَ مُنى نَفْسيالمصدر السابق.

فكلما كانت الفطرة والجبلة صافية نقية صار القلب منجذبًا للنور، فالفطرة من سنخ ذلك النور، والأمور المتشابهة تنجذب لبعضها بعضًا في عالم الملكوت على عكس قوانين علم الملك، الإرادة الصادرة من قلب عبدٍ متشوق تكون خاليةً من الشوائب والمكدرات، ولا يصفو قلب عبدٍ إلا بمعارضته لهواه، فالشوائب إنما تأتي من الهوى.

و الإرادة على درجات ومنازل:

١- إرادة التخلي عن العادات:

وهذه الإرادة تتطلب استحصال خصال، نورد منها:

أ. أن يسعى العبد دائمًا إلى التخلي عن العادات التي دأب على فعلها وتعود عليها وعن مخالطة من ركن إلى الدنيا وانشغل بها، وأن يبتعد عن الانغماس في طباعه التي ألفها ونشأ عليها. فغالبًا ما يألف الإنسان أمورًا ليست داخلة في تفكيره، وليست من نتاج عقله، ومع ذلك يعتاد عليها ويتطبع بها لما يرى من أنس نفسها بها. فهذه الطباع والعادات لا تصل بالعبد إلى مقامات السمو نحو الله تعالى بل تركسه في مهاوي الجهل والظلمات.

ب. التفقه في الدين والتمكن من العلم الشرعي: فمن دون التديّن لا يكون القرب من الله تعالى. والتديّن لا يعني فقط فهم الأحكام الشرعية المبتلى بها، بل يعني تطبيقها والالتزام بأحكامها مهما كانت قاسية وغير مألوفة وإن كانت في غير مصلحة العبد حسب الظاهر. فلا تقوم طباع النفس البشرية على اختلافها من دون علم محكم ومعرفة صادقة يتبعها عمل وسعي بجد إلى تقويم تلك العادات بالطاعات والعبادات.

ج. التأسّي بالسالكين: ففي مقاربة حالات الواصلين من العباد والذين سبقوا من الصالحين واستقراء أخبارهم أنس لروح المريد ومنهلٌ لحال السلوك إلى الله تعالى بصفة المريد. ومن ذلك الاطلاع على أحوالهم ومناشئهم من خلال قراءة كتبهم أو ما جاء من الأخبار عنهم مستفيدًا من تجاربهم، مستنشقًا أنفاسهم التي يزفرونها حينما يتصلون بالملأ الأعلى سلوكًا وذوبانًا فيه. ففي قراءة أحوالهم والتعرف على مناهجهم التي انتهجوها وبها وصلوا لأعلى مقاصدهم منارٌ لمن ابتدأ طريق العروج نحو الله تعالى. فعلى سبيل المثال فإن قراءة شيء من حياة السيد علي القاضي الطباطبائي التبريزي وسلوكه، والاستنارة بطريقته والتزود من منهجه يقرب العبد لطريق ويوضح له المقاصد.

د. الابتعاد عن أصحاب الدنيا ومن في القرب منهم إماتة للروح؛ لأن أهل الدنيا يقعدون بالإنسان عن توجهه نحو الله تعالى ويزيّنون له حب الدنيا، فيبتعد عن مصدر الفيض شيئًا فشيئًا حتى يعتاد على زخارف الدنيا ويألف منحها ويستأنس بها ويستثقل العبادات والطاعات، فلا يمكن الجمع بين حب الدنيا والتعلق بها وبين السمو والعروج نحو الفيض والملكوت. وهنا أيضًا نشير إلى حياة السيد علي القاضي الذي كان فانيًا ذاته في الله، فهو عابدٌ عالم جليل، وفقيه ومدرس للأخلاق، كما أنه كان فقيرًا محتسبًا صابرًا، وكانت تطوى له الأرض فيسافر من النجف إلى خراسان ويعود من دون أن يشعر به أحد، وما كان ذاك إلا بسبب الانشغال بالله عما سواه من الخلق.

هـ. عدم الانشغال بكد المال وتحصيل أسباب الرفاهية في العيش وملذات الحياة؛ لأن كل ذلك من شأنه شغل العبد عن السفر بروحه نحو الملكوت، وهذا ما نستخلصه من حياة السالكين والمريدين لله تعالى عمن سواه من الخلق وشئون الحياة.

٢- إرادة السالكين:

وهي التي تنطوي على درجة أرفع من التوجه والتي تستوجب من العبد مزيدًا من الانتباه لتربية النفس وترويضها، وهي على منازل:

أ. أن يتيقن العبد السالك وهو في عروجه بأن كل اهتمام دون الله زيف ولا يوصل إلى شيء، وهذا ما دأب عليه أهل العرفان خلال مسيرتهم في مجاهدة النفس والذات بمطامع الحياة التي يتنافس فيها غيرهم من الناس ممن انشغلوا بالدنيا وتركوا استشعار الآخرة.

ب. ترويض النفس عبر رياضات مختلفة من أذكار وتسبيحات وغيرهما، وبصورة متدرجة ومنضبطة لئلا تنفر نفوسهم بسبب الجد والاجتهاد، وحتى تستأنس القلوب والنفوس والأرواح. فكلما أجهد العبد جسده بالعبادة متدرّجًا فإن قلبه يستأنس الطريق ولا يمل منه.

الخلاصة: ربما يتبادر للذهن أن التوجه والسير والسلوك نحو الله تعالى يتطلب الإعراض مطلقًا عن الحياة الدنيا وما فيها من نِعَم، والحق يقول في كتابه الحكيم: ﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾سورة الأعراف، آية ٣١ ويقول: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ۚ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ سورة الأعراف، آية ٣٢، إذن، فما المراد من كل ما سبق؟ والجواب هو الآتي:

١-  ليس مطلوب من العبد الحقيقي سوى أن يكون عبدًا حقيقيًّا في صلاته، فإذا وقف أمام الله تعالى للعبادة لا ينشغل عنه بشيء من أمور الدنيا. وهل هذا شيء سهل وبسيط؟ فتأمل.
٢- إذا تلا العبد قرآنه يتوجب أن يستحضر قلبه لتلامس آيات الله تعالى روحه، فيتفاعل مع ما تذكره الآيات الشريفة من توجيه.
٣- أن يصحح العبد سلوكه مع الناس ويراقب ربه في كل منعطفات حياته، فلا يستخف بأحد ولا يشتم أحدًا ولا يظلم أحدًا.
٤- أن يراعي العبد حق والديه وأهله وأولاده بالشكل الذي يأمر به الله تعالى، وهو مع ذلك ذاكر لله تعالى على الدوام، فيلهج لسانه بالذكر والاستغفار على الدوام.
٥- أن يلتحق العبد ببرنامج عبادي خاص يريح به نفسه من تعب الدنيا والانغماس فيها والتدرج في الاستزادة منها قليلًا قليلًا حتى تأنس نفسه وروحه القيام لصلاة الليل والأهل نيام.
٦- أن يواظب العبد على الصدقة، فيخرجها سرًا وجهرًا، ويؤدي حقها لأهلها تواضعًا وتقربًا لله تعالى.
٧- أن يعوّد العبد نفسه على الصدق في الحديث، وألا يدخل نفسه فيما لا يعنيه من مهاترات، وأن يتعود الصمت إلا فيما يرضاه الله تعالى.
٨- أن يديم العبد الشكر والثناء على الله تعالى على نعمه وإن كان محرومًا مما تريده نفسه، وأن يطلب العون منه لإصلاح أمور دنياه وآخرته.
٩- أن يتقن العبد اختيار من يقربه لله تعالى من الأصحاب، ويجالس أهل العلم الذين يستنير بهداهم، وخصوصًا أهل السلوك والمعرفة بالطرق التي تؤدي إلى الله تعالى.
١٠- أن يؤدي العبد ما عليه من حقوق للعباد، ويتخلص من ثقل مخاصمتهم له.
١١- أن يخلص العبد نيته في كل أعماله ويصحح أفكاره، وخصوصًا تلك الأفكار التي تتعلق بالآخرين.
١٢- أن يبدأ العبد مُجدًّا في ترك الذنوب التي من شأنها إحباط توجهه وإن كانت صغيرةً ولا تعتبر في عين الناس الآخرين ذنوبًا من مثل السهر في غير طاعة، أو النوم الطويل من غير عبادة، أو تحصيل المال لغير حاجة، أو الكلام في غير محله، ونحوها.

العلامات: تثقيف أخلاقي
شارك المقال:
هل وجدت هذا المقال مفيدًا ، يمكنك الاشتراك لتصلك مقالات مشابهة
مواضيع ذات علاقة
الرفق وضده الخرق - الرفق من جنود العقل

جنود العقل والجهل ١٥ : الرفق وضده الخرق

اللذة والإرادة في تحقيق الكمال

معرفة الذات لبنائها الجديد ٥ : اللذة والإرادة في تحقيق الكمال

داء الكبر

القلب السليم ٤ : داء الكبر

القلب السليم ٣ : الرياء والسمعة - اسباب الرياء | سكينة

القلب السليم ٣ : الرياء والسمعة | اسباب الرياء

مراحل السير والسلوك

العرفان الإسلامي ٥ : مراحل السير والسلوك

التصديق مقابل الجحود و إصلاح النفس من الجحود

جنود العقل والجهل ٤ : التصديق مقابل الجحود

الحزن في رضا الله

الحزن في رضا الله

القصد درجات ومنازل

القصد درجات ومنازل تعرف عليها

أرض جديدة ٢ : جوهر الأنا | السلام الداخلي

أرض جديدة ٢ : جوهر الأنا | السلام الداخلي

هل تكتب مقالات؟

تستطيع الكتابة لمساعدة الآخرين، اكتب لنا و سننشر لك مع الاعتبار لسياسة كتابة المقالات التي نتبعها

Survey
Interested in reading articles
Articles Writer