قال تعالى: (وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ) سورة الحج، آية ٣٤. معنى لفظة الإخبات: هو السكون إلى من تنجذب إليه بقوة الشوق (وَأَخْبَتُوا إِلَىٰ رَبِّهِمْ) سورة هود، آية ٢٣ أي سكنوا إليه. فالإخبات هو الارتياح التام والطمأنينة الكاملة في محضر المعشوق.
الإخبات أول طريق الأمن النفسي، والطمأنينة الروحية في طريق السعي نحو الكمال. وهي تقي الإنسان من التقهقر والتراجع والتردد خلال عملية تدريب النفس على الخضوع لله تعالى؛ وذلك لأن العبد يأنس بما يحصل عليه من فيوضات وتجليات نتيجة مجاهدته لنفسه وهواه، فيتلزم الطريق الذي يأخذ به نحو الله (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) سورة الفاتحة، آية ٦.
و الإخبات على درجات ومنازل:
١- أن تستغرق العصمة الشهوة: ولأن السالك يتجه نحو الله تعالى، فيجب أن يكون دائمًا في طهر من الذنوب ومبتعدًا عن الغفلة وداخلًا في العصمة التي تمنعه من الوقوع في حبائل الشيطان والنفس الأمّارة بالسوء وتدخله في رحاب النفس المطمئنة، فإذا ما استطاع الإنسان كبح جماح شهواته ولجم شيطانه خرج من ولاية الشيطان ودخل في ولاية الرحمن، وحينها يدخل النور إلى النَّفس، وهذا النور من نور الله تعالى الذي يتجلي في عباده المخلصين كلٌّ حسب مقدرته واستعداده، فحينها يشتدُّ هذا النور باشتداد الاستعداد والقابليات نتيجة الرياضات والمجاهدات التي يقوم بها العبد.
٢- أن تستدرك الإرادة الغفلة: فآفة المسير إلى الله تعالى هي الغفلة عنه، واستدامة ذكره تعالى تحتاج إلى إرداة قوية وقلب يقظ وروح مفعمة لا تخبو جذوة الانطلاق فيها، وإنَّما يسيطر على النَّفس بحضور القلب دائمًا.
٣- ويستهوي الطلب السلوة: فإذا ما تصاعدتْ همةُ العبدِ في اللجوء والمسير نحو الله تعالى شملتْهُ رحمة الله تعالى ورقى في طلبه للعروج ومنعته من التساقط والتسافل مرة أخرى، وبتجدد المفاهيم في روح العبد وقلبه يتجدد الانطلاق، فكلما شعر بالتَّعب والكسل جدّد العهد مع الله تعالى لينال توفيقه ويعصمه من التقهقر والتخاذل.
٤- منع الأسباب من إيقاف المسير: والسالك الذي ترقّى في درجات القرب من الله تعالى تراه يحرص على تجنب الورود في الأسباب التي تحول بينه وبين غايته، فيترك كل ما من شأنه التأثير على مسيرته ويرفض كل فكرة إنسانية أو وسوسة شيطانية من الممكن أن تزلّ بقدمه وتوقفه عن مسيره.
٥- ولا يوحش قلبَ السالكِ عارضٌ: فكثيرة جدًا هي الأحابيل الشيطانية أو الوسوسات النفسية التي تعرض على قلب الإنسان ليل نهار، فتزيّن له حبَّ الدنيا وتُضعف رغبته في الآخرة، قإذا ما امتنع الإنسان عن تلك الأفكار والوساوس لم تدخل وحشة في قلبه؛ لأنه يأنس حينها بذكر الله تعالى ولا يقبل عنه بديلًا.
٦- تجنب الفتن: فالتعلق بالمال والولد والجاه والسلطان وإمكانيات الدنيا كلُّها فتنٌ من الممكن أنْ تقعد السالك عن المسير في درب الملكوت، وهنا لا ينبغي للإنسان أن يظنَّ أن الانشغال المعتدل بالدنيا لخدمة الأهل والنَّاس أمر خارج عن السلوك والعروج نحو الله تعالى، بل هي من أيسرها طريقًا، فكلما شقى العبد في تيسير أمور الناس وتشاغل بحل مشاكلهم رضًا لله تعالى وتقرُبًا، كلمَّا قرب أسرع في طريق العروج لله تعالى، شريطة أن تكون أعماله كلها منطلقة من وعيه وإدراكه ونيته بأن كلَّ عمله إنما يؤديه قربة وزلفى لله تعالى.
٧- أن لا يفرح بالمدح ولا يستاء من الذم: وذلك لأنه بالأصل لا يلتفت إلى رضا المخلوق على حساب الخالق، فإذا فرح كان فرحه في الله، وإذا غضب كان ذلك في الله وتتسوى عنده مذمّة من ذمّه ومدح من مدحه؛ لأنه ينظر فقط إلى قبول الله تعالى لعمله والمثوبة منه.
٨- أن يستديم في لوم النفس: وهي من المراحل المتقدمة في السلوك والعروج نحو الله تعالى، فيدوم في لوم نفسه لا بسبب التفريط لأنه يكون ممنوعًا عن التفريط، بل بسبب تغير اشتداد رحلته في الانطلاق نحو الله تعالى شدة وضعفاً.
٩- أن يغمض عينيه عن نقص مقام غيره من الناس: فالتشاغل بالنفس يحجز العبد عن التفكير في غيره من الناس؛ فيغض البصر عن أعمالهم وأفعالهم وأقوالهم ولا يدخل في محاسبتهم؛ لأن ذلك من شأنه أن يشغله عن الاهتمام بإصلاح عيبه وحجره عن التعرض إلى مزيد من نفحات القرب الإلهي.