من الأمراض الروحية القاتلة لقلب الإنسان وكيانه مرضُ الرياءِ وطلبِ السمعة، وقد عرّفَ علماءُ الأخلاق الرياء بأنَّهُ إرادة التقرب للخلق بواسطة العمل العبادي، فيعلم مما قيل أنّ حقيقة الرياء هي الرغبه بالمنزلة والوجاهة والاعتبار والتكريم عند الناس، لا تقتصر حرمة الرياءِ بصفته سلوكًا فحسب بل مجرد وجود تلك النية وذلك القصد في قلب انسان هو بحد ذاتِهِ حرامٌ، وإنْ لم يحصل الإنسان على ما يبتغيه من الرياء.
وللعلم فإنّ القلب حرمُ الله كما اشارت الرويات لذلك، ولا مسوّغ لإشراك أحد غير الله سبحانه في حرمه، وهنا يقفز سؤال مهم، وهو ما هي الأسباب التي تجعل الإنسان يطلب الرياء ويتلبس به، ويغفل أنّ ذلك منافٍ تمامًا لأصول العبودية وكمال التوحيد؟ وهنا إشارة لا بد من التنبيه عليها وهي كل ما يقال في هذا مرض الرياء ينطبق تمامًا على المرض الآخر الأشد لؤمًا وخسةً، وهو مرض طلب السمعه بواسطة العبادات والقربات.
فالدواء واحد لكليهما وإن تغيّر مسمى المرض بين الرياء والسمعة، وهنا يحسن بنا أنْ نتعرفَ على الدواعي التي بسببها تنبت بذرة الرياء والسمعة في قلب الإنسان.
أسباب الرياء والسمعة
١- طلب المنزله والوجاهة عند الناس، وذلك عن طريق الإتيان بالصلوات والقربات دائمًا وأبدًا بين الجموع، سواءً في المسجد أو المأتم أو حتى المقبرة بين الأموات، المهم أن تكون هناك رائحة للعبادة ينفذ من خلالها الرياء إلى قلب الإنسان.
٢- طلب الشهرة والتحدث عنه في المحافل والبيوت وبين بني محلته، فمن كان إنفاقُهُ في الأمور الخيرية لأجل أنْ يذكره الناس بالثناء والمديح كان طالبَ رياءٍ وسمعة، وكلُّ طالب رياءٍ وسمعة محرومٌ ومبطلٌ لكلِّ ما يقوم به، وقد جاء في التاريخ أنَّهُ حين شيّدَ هارون الرشيد مسجدًا في بغداد ونقش عليه اسمه اتّفق أن جاء بهلول إلى المسجد يومًا، وقال للرشيد: ماذا صنعت؟ قال الرشيد: بنيتُ بيتًا لله، قال بهلول: إذن، فمر أنْ يزيلوا اسمَكَ عنه وينقشوا اسمي مكانه، فغضب الخليفة وقال: وكيف أبنيه أنا، وأنقش اسمك أنت؟ قال بهلول: ولِمَ تقول إنَّهُ بيت الله إذنً؟ قال الرشيد: فماذا أقول؟ قال: قل إنَّهُ بيتي، أي إنّ تسميه بناء أقيم للشهرة الشخصية لا باسم بيت الله، لأنه لم يبنَ من أجل الله.
٣- من أسباب الرياء والسمعة هو الرغبة في النفوذ الاجتماعي وتقديم الذات على الغير، وزيادة الاتباع والحاشية، وهذه تتفق في الغالب لِمَنْ عنده صفة التقدم في الصفوف كالخطباء أو الأثرياء أو أبناء العوائل المشهورة مما يعقب حضورهم ظهورًا ولمعانًا في الأوساط الإجتماعية.
وهذه ثلاثة أسباب تعتبر أساس لمرض الرياء والسمعة، وقد حذّرنا الله تعالى في محكم قرآنه عن النتائج المرعبة من الانجرار والفرحة بحالة الرياء والسمعة، ونتيجة ذينك ليس سوى الخسران في أقصى مراتبه ومعالمه، قال تعالى(هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا) سورة الكهف، آية 103 – 104.
الرياء والسمعة في العبادة
وهنا يتبادر سؤال مهم ومفاده إلى أي حد يكون الرياء وطلب السمعة داخلين في عباداتنا؟ يجب التنبه والعلم أنّ النية في العبادة ليست مما يقال باللسان أو يوضع في الخاطر، إنّما النية في العبادة أن يُؤتى العمل من أجل التقرب إلى الله سبحانه، وبشكل أكثر وضوحًا أنَّ كلَّ فعلٍ اختياري يصدر عن الإنسان إنما يسبقه وجود الميل والرغبة فيه في قلب الإنسان باعتبار منفعةٍ معيّنةٍ للوصول إلى تلك المنفعة تتجسد الإرادة عبر القيام به.
فإذا قام المسلمُ بعبادةٍ ما برغبةِ القرب إلى الله تعالى، واندفع للعمل بهذه النية كانتء أفضل النيات وأحسنها، وما أنْ يخالطها شيءٌ من الخواطر الأخرى غير القرب من الله فحينئذٍ تختلُّ النية ويتبعها فسادُ العملِ ذاته، ويستحسن هاهنا التأمل في هذه القصة الغريبة العجيبة أدناه.
صلاة ثلاثين سنة
كان أحد العبّاد يؤدي صلاته جماعة وفي الصف الأول واستمر في ذلك ثلاثين سنة، وفي أحد الأيام لم يتمكّنْ هذا العابد من الوصول في أول الوقت، وحين وصل كان مصلّ آخر قد أخذ مكانه المعتاد، فاضطّر إلى أداء صلاته في الصف الأخير، وحين انتهتْ الصلاة ورآه المصلّون شعر بالخجل والضيق لأنّ النّاس رأوه في الصف الأخير.
وعرف إذ ذاك أنّ صلواتِهِ بكاملِهَا خلال السنوات الثلاثين التي انصرمت كانت ملوّثةً بالرياء، وأنّهُ كان في باطنِهِ يميلُ إلى أنْ يراه النّاس دومًا في الصف الأول من الجماعة، كي يثنوا عليه، فما كان منه إلا أنْ أعادَ صلواتِهِ عن السنوات الثلاثين قضاء.
وقد شددّتْ الروايات الشريفة الواردة عن أهل البيت عليهم السلام حرمة الرياء وطلب السمعة، وهذه أربع روايات وهي تستحق التدقيق والتأمل:-
١- قال الإمام الصادق عليه السلام لأحد اصحابه واسمه عبّاد بن كثير: ويلك يا عبّاد، إياك والرياء، فإنَّهُ من عمل لغير الله وكلَّه الله إلى مَنْ عمل له.
٢- يروى عن أمير المؤمنين أنَّهُ قال: من أظهر للناس ما يحبّ الله، وبارز الله بما كرهه، لقي الله وهو ماقت له.
٣- عن الإمام الرضا عليه السلام: اعملوا لغير رياء ولا سمعة، فإنَّهُ من عمل لغير الله وكله الله الى ما عمل، وما عمل أحدٌ عملاً إلا ردّاه الله، إنْ خيراً فخير، و إنْ شراً فشرّ.
٤- وجاء عن الإمام الصادق عليه السلام: مَنْ أراد الله عزَّ وجلّ بالقليل من عمله، أظهر الله أكثر مما أراد، و مَنْ أراد الناس بالكثير من عمله، في تعب من بدنه، وسهر من ليله، أبي الله عزّ وجلّ إلا أن يقلّله في عين من سمعه.
وختامًا فإنّ الله تعالى برحمته وكرمه وفضله إذا أراد أنْ يجعل للعبد ظهورًا ووجاهة بين مجتمعه فإنّ سبيلها الإيمان الخالص والعبودية لله تعالى طلبًا لقربه ومرضاته، فهذا السبب الوحيد للسمعة الطيبة عند الناس والوجاهة عند الله تعالى.