سيكون حديثنا في هذه الأسطر عن مرض حب الدنيا، وهذا المرض يعتبر منشأ كل الأمراض القلبية الأخرى وأسّها، فما المقصود بحب الدنيا؟ و ما هي الدنيا المذمومة هنا؟
معنى الدنيا: منذ اللحظة التي يخرج الإنسان فيها من بطن أمِّهِ ويضع قدمه على هذه الكرة الترابية وحتى الساعة التي تفارق فيها روحه جسده، كل هذه المدة من الزمان يُقال لها الدنيا، مضافًا إلى ذلك مستلزمات حياته كالطعام واللباس والسكن و ما يؤثر في راحة الإنسان خلال تلك المدة كالسلامة والصحة والولد، كلُّ هذا يقال له الدنيا أيضًا.
وهنا نلفت الإنتباه إلى أن العبادة والإمتناع عن المعصية إن كانا لله سبحانه فصورتهما دنيويّة وفانية، في حين أنّ حقيقتهما وأثرهما باقيان، فيقال لهما من هذا الوجه أخرويّان لا دنيويّان، حتى أن مقدّماتهما إنْ كانتْ لله تعالى أخرويّة أيضًا.
حب الدنيا او التعلق بالدنيا
هو امتلاك أصل الحياة الدنيويّة العاديّة والآثار واللوازم والإعتبارات واللّذات والشهوات العائدة لها بحيث تكون هذه اللوازم وهذه الأمور هي المحرّك الأساس لحركة الإنسان في الحياة دون النظر إلى الحياة الآخرة، أمّا الحب العادي التلقائي للدنيا غير مذموم، فحبّ الحياة الدنيا ومافيها وما يعود إليها إنْ كان بدافع إلهي وأخروي فإنه يخرج عن عنوان حب الدنيا الذي هو مورد ذمٍّ في القرآن والأخبار، أمَّا الدنيا التي يحبُّها من أجل الله وحسن آخرته فهو أشبه بمسافر لا رغبة له سوى العودة إلى موطنه وتأمين حياته فيه، فإذا ما رأى في المدينة شيئًا ينفعه في موطنه ورغب به سعى في إعادته معه، والخلاصة فإنّ الحب التلقائي العادي للدنيا غير مذموم إنَّما المذموم الحب الإستقلالي للدنيا وكأنها محطته الأولى والأخيرة.
مراتب حب الدنيا
١ـ أنء لا يكون في قلب الشخص تعلق سوى بالحياة الدنيا والتعلق بما فيها، وأنْ لا تكون فيه رغبة سوى الرغبات المادية، أمّا الله سبحانه والآخرة فهما في وهمه مجرد خيال وخرافة وهذه المرتبة الأولى.
٢ـ أمّا المرتبة الثانية عندما يحبُّ الشخص الحياة الدنيا بطور الإستقلال ويتعلق بأوضاعها، في ذات الوقت تتعلق بالحياة الآخرة و يتمنى الراحة والسعادة في كلا الحياتين، غير أنّ تعلق قلبه بالدنيا يكون أقوى وأكثر، والدنيا في نظره أعظم من الآخرة وأكثر قدرًا وأهميةً، بحيث يفتدي دنياه بآخرته عند التزاحم.
٣ـ أن يحب امرؤٌ حياته الآخرة إذ هو مؤمن بها معتقدٌ بيوم الحساب وبالحياة ما بعد الموت، غير أنَّ حبَّهُ هذا يخالطه حب للدنيا ولو بمستوى أقل، فيرجح عنده حب الحياة الآخرة على الدنيا ويكون تعلقه بالآخرة أشدّ وأقوى.
حب الدنيا في القرآن
قال تعالى (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ) سورة النجم، آية 29 – 30، وقال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ) سورة ص، آية 26، وخلاصة الآيتين الشريفتين أنّ من أعرض عن ذكر الله سبحانه والآخرة واقتصر في علمه ومراده وعلاقته على الحياة الدنيا وما فيها فحسب، فقد ضلَّ و تاهَ عن سبيل الله سبحانه وتعالى، ومَنْ ضَلَّ عن سبيل الله ونسي عالم الجزاء ورضي بهذه الحياة الدنيا فله عذابٌ شديدٌ.
حب الدنيا في الروايات
عن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: حبُّ الدنيا مرارةُ الآخرة، ومرارةُ الدنيا حلاوةُ الآخرة، وعن الإمام الصادق عليه السلام قال : رأسُ كلِّ خطيئةٍ حب الدنيا، وعن قال الإمام علي عليه السلام: حبُّ الدنيا يفسدُ العقلَ ويهمُّ القلبَ عن سماع الحكمة ويوجبُ أليمَ العقاب، كما قال أيضًا: إنّ الدنيا والآخرة عدوّان متفاوتان، وسبيلان مختلفان، فمن أحبَّ الدنيا وتولّاها أبغض الآخرة وعاداها، وهما بمنزلة المشرق والمغرب وماشٍ بينهما، فكلّما قَرُبَ من واحدٍ بَعُد عن الآخر، وهما بعد ضرّتان، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: ليجيئنً أقوام يوم القيامة لهم من الحسنات كجبال تهامة فيؤمر بهم إلى النار، فقيل: يا نبي الله أمصلّون؟ قال: كانوا يصلّون و يصومون و يأخذون وهنًا من الليل، لكنّهم كانوا إذا لاح لهم شيءٌ من الدنيا وثبوا عليه، وجاء عن الإمام علي بن الحسين السجاد عليه السلام أنه سُئِلَ : أي الأعمال أفضل عند الله ؟ قال عليه السلام: ما من عمل بعد معرفة الله عزّ و جلّ ومعرفة رسوله صلى الله عليه وآله أفضل من بغض الدنيا.
بعض الآثار حب الدنيا
١- الحرص الشديد.
٢- الهم بلا حدود.
٣- الحسد.
٤- الغضب.
٥- الجرأة.
٦- الموت الصعب.
علاج حب الدنيا
ينبغي على الإنسان أن يقرأ آيات القرآن المجيد والأخبار المعتبرة التي وردتْ في وصف الحياة الباقية للإنسان بعد الموت قراءة تدبّر وتفكّر، تؤثر فيه و تزيد في قلبه الشوق للوصول إلى العالم الأعلى، فإنّ الغرض الأساس من بعثة رسول الله صلى الله عليه وآله ونزول القرآن المجيد هو أن يستمع المسلمون إلى هذه الأخبار و يؤمنوا بها، وينقطعوا بذلك عن الدنيا ويرتبطوا بالله وبالآخرة ويشتاقوا لها، كما أنّهم بواسطة العمل الصالح الذي تم إرشادهم إليه يعدّون أنفسهم للعالم الباقي.