قال تعالى: (قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ) سورة الطور، آية ٢٦، معنى مفردة “الشفقة“: صفة نفسية تورث حزنًا عند نزول مكروه بالغير، وعملًا على إزالته. وتأتي بمعنى الخوف والحذر والحرص على شيء أو أحد ما. وتأتي بمعنى العطف والحنان.
و الإشفاق يكون على ثلاث منازل؛ لكل منزلة ثلاث درجات:
المنزلة الأولى:
١- الإشفاق على النفس من التعود على المخالفات: وهنا لابد لنا من أن نستذكر أمرًا مهمًا وهو أن النفس تميل بالطبع إلى ما يسرُّها، وكثيراً ما يكون ما يسر النفس هو مخالفة العقل والدين، فتراها تميل إلى العناد وعدم اتباع الحق، وهذا يؤدي إلى أن تتطبع النفس على الهوى. والإشفاق حالة تحتاج إلى استذكار دائم وحضور قلب وتنبيه، ولا تحصل كيفما اتفق، بل لابد من توفيق وهداية ربانية تشمل الإنسان لكي يكون من أهل هذه الصفة. والهداية الإلهية تُستجلب بكثرة اللجوء إليه تعالى والاستعاذة من الشيطان الرجيم.
٢- إشفاق على العمل بأن لا يقبل منه: وممكن أن يكون الإشفاق مخافة ألا يتقبل العمل من الإنسان أكان عملًا دنيويًا صرفًا أو أخرويًا. فعند قيام الإنسان بعمل ما لصالح شخص ما يحبه ويرتجي مصلحته فإن حالة من الحرص والحذر تلازم الإنسان خلال القيام بالعمل، ومن ثم تتحول إلى حالة من الخوف والترقب نتيجة معرفة رضا ذلك المحبوب عن العمل. وهكذا تمامًا حالة العباد قبال أعمالهم التي يؤدونا لوجه الله تعالى رجاءً للقبول ومخافةً للرفض.
٣- إشفاق على الناس لمعذرتهم: وأحيانًا تكون حالة الشفقة على الغير من الناس كالفقير والمسكين والضعيف والقريب الذين يخالطهم، فيطلب لهم المعونة من الله رأفة بهم، وأيضًا غيرهم من الناس الذين يتشاكل معهم فيختلف ويطلب لهم العذر في التقصير رحمة بهم وإشفاقًا عليهم.
المنزلة الثانية:
١- إشفاق على الوقت: حالة الإشفاق هذه من مستلزمات العقل السليم؛ لأن الإنسان العاقل يبذل غاية المجهود للحفاظ على وقته، خصوصًا في ما يصرف في التوجه إلى الله تعالى، وهو درجة عالية من القرب لا يهنأ بها إلا من عرف حقها، فلا يقبل أن يشغله عن محضر الله تعالى شاغل.
٢- إشفاق على القلب: وحالة الإشفاق هذه مقرونة بالتي قبلها (الإشفاق على الوقت)؛ لأن الإنسان فيها يحرص على ألا يصيب قلبه السأم والملل أو الضيق والضجر، فهي آفات التوجه إلى الله تعالى.
٣- إشفاق على اليقين: وهي من الحالات الراقية، فأصحابها مسلِّمون كل أمورهم لله تعالى ويثقون بانقطاع بكرمه وحضور رزق، فتراهم لا يخططون لأنفسهم بشيء؛ بل هم معتمدون بالكامل على هباته ثقةً ويقينًا بالله. وهذا لا يعني أنهم لا يأخذون بالأسباب الطبيعية من طلب الرزق والسعي في أمور الحياة والعمل والدراسة والكد على النفس والآل والعيال، بل هم يرون كل هذه الأمور مقدمة لعطاء الله تعالى، لكنهم راضون بما يقسمه لهم وفاءً لجهودهم.
المنزلة الثالثة:
١- إشفاق من العجب بالعمل: هذا النوع من العمل يقارب ما تم شرحه في مقام الخوف فالإشفاق نوع من الخوف ممزوج بحرص وعطف وحنان، وهنا يقع المريد لله تعالى في حالة الشفقة من أن يصيبه عجب بعمله، أو قول أو سلوك يحبط به عمله المراد به وجه الله تعالى، فاللازم علينا نسب كل أعمالنا ومواقفنا ونسأل الله التوفيق له في أمور حياتنا الدنيوية والأخروية هو من الله تعالى ولا نملك لأنفسنا شيئًا.
٢- إشفاق من مخاصمة الناس: فكثيراً ما يعتد الإنسان بنفسه في أفعاله ويصطدم في أقواله ورؤاه مع غيره من الناس، فيبدأ في مخاصمتهم ولو فكرًا واعتقادًا بناء على اعتداده بنفسه، وبذلك قد يكون قد دخل في خصومة مع الله تعالى، حيث إنه قد خاصم وليًا من أولياء الله تعالى مجهولًا. فالحذر من هذه الحالة يُعد من الأمور الراجحة والمهمة.
٣- إشفاق للمحافظة على التوفيق: بأن يستديم العبد على طلب التوفيق من الله، وطلب المدد المتواصل منه، ومخافة أن يسلبه الله الدعم فيقع في الخيبة والخسران. فيرى كل فعله الحسن فعلًا لله تعالى، ويرجوه ألا يقطع فيضه عنه مادام في قرب الله تعالى. ومن أفضل أنواع التقرب إلى الله تعالى هو خدمة المؤمنين، وخصوصًا الأقربين منهم.