قال تعالى: (تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا) سورة التوبة، آية ٩٢، الحزن أمر حسن وهو من الأمور المطلوب توفرها في قلب العبد ليتكامل، والحزن صنفان: إمّا أن يكون على شيء قد فات ولكن يمكن تداركه، أو على شيء لا يمكن حصوله.
والحزن في رضا الله على ثلاث منازل:
١- حزن على التقصير في الدخول في سلك المطيعين:
والتقصير أمر يقع فيه جميع الناس ممن لم يلزموا أنفسهم الانتباه ولم يوطنوا أنفسهم على دوام الطاعة لله.
وبما أن أكثر الناس غالبًا ما يقعون فريسة الغفلة والتغافل عن القيام بما هو أفضل واختيار الأحسن فإن تحسس الحزن على التقصير هو أمر راجح ومطلوب؛ لأنه يمد الإنسان بالعزيمة لتدارك الأمر والاستفادة مما هو مقبل من أعمال. ولتوضيح الأمر نستعين بهذا المثال من حياة الناس عامة:
نفترض تهيؤ شخص ما لدخول امتحان ما، وهو يعلم الفصول التي يجب التركيز عليها والتي سيشملها الامتحان، غير أنه قصّر في مذاكرة فصل معين لأسباب معينة، ويوم الامتحان وجد أن أغلب الأسئلة جاءت من ذلك الفصل الذي أهمله. هنا ستكون الحسرة كبيرة والحزن في نفسه عارماً؛ لأنه لم يولِ ذلك الفصل اهتمامًا كافيًا وإلا لكان قد أجاب على كل الأسئلة وأحرز أفضل النتائج. مع أن الامتحان أمر يمكن تعويضه مستقبلًا لكنه يبقى حزينًا ويستشعر التعب النفسي. هذا هو عينه ما يتوجب على المؤمن التفكير فيه خلال يومه وليله؛ لأن ما يفوتنا من أمور صالحة أكثر مما نمارسه. فلو افترضنا مقدرة إنسان ما على إتيان أحد أمرين: واجب ومستحب فإن الشرع والعقل يلزمانه بإتيان الواجب، فلو فعل العكس وفات وقت الواجب لكان ملامًا ولكان قد استشعر الحزن والكآبة.
٢- حزن على كثرة الجفاء:
وهو الوقوع في الخطيئة وإتيان المعصية مخالفة لأمر الله تعالى وترك نواهيه. وهذا النوع من الحزن بصمته في نفس الإنسان أثرها يختلف عن الحزن على التقصير في أداء الواجبات؛ فهي بصمة حارقة وذات طابع قاسٍ، والسبب يعود إلى تجاوز الحدود المعلومة، وغالبًا ما يكون نتيجة ذلك التجاوز عقوبة دنيوية أو أخروية. ولتسهيل المطلب نضرب المثال الآتي:
هب أن إنسانًا قد تعمد جرح حبيب أو قريب أو صديق، وأمعن في أذيته وانكساره، هذا النوع من السلوكيات أمر قبيح ويترك أثرًا سلبيًا في نفس الشخص الآخر، وتدارك الأمر وإصلاحه ليس معلومًا وليس دائمًا في الإمكان؛ لأن ما نبت في النفس والقلب من آلام لا تمكن الكثير من المغفرة والصفح. وهنا وإن حاول التكفير عن ذنبه بشتى الطرق لإصلاح الأمر وتعويض الخسارة، إلا أن حتمية التعويض غير متوافرة. هذا في شأن الدنيا، وعليه فقس في شأن الآخرة، حيث إن إتيان القبائح من الأعمال عمدًا وإصرارًا يفوّت على الإنسان كثيرًا من التجليات الربانية في قلب الإنسان، ويوضعه موضع المتخلف عن الركب، فلو أدمن إنسان على الكذب والغيبة أو غيرهما من أمور محرمة فإن إذرام رضا الله تعالى منوط بمغفرة مَن كذب عليهم واغتابهم. والحسرة هنا كبيرة، حيث يصعب على الكثير التحلي بالشجاعة لطلب المغفرة ممن ظلمهم بلسانه ويده.
٣- حزن لضياع الوقت:
لكثرة التسويف والتأجيل والتأخير والسكون إلى الراحة والدعة. وهذا نوع آخر من أنواع الحزن القاسية التي تترك أثرًا بالغًا في نفس الإنسان والتي يتوجب علينا دائمًا التأمل فيها. فهل يا ترى بقي من العمر مثلما ما مضى؟ أمر ليس معلومًا، فلا توجد حقيقة يدركها الإنسان تتعلق بكم بقي له في الدنيا، وعليه فإن ما فات من أوقات في اللهو واللعب والنوم والأكل ومخالطة الناس – وإن كانت أمور ليست محرمة – أكثر بكثير من الأوقات التي قضاها الإنسان في طاعة وفي عبادة. ولتوضيح الأمر نجري حسبة سريعة:
هب أن إنسانًا ينام ٨ ساعات في اليوم، ويعمل ٨ ساعات، ويتابع شؤون حياته وأسرته ٨ ساعات، وكلها مقرونة بطاعة الله تعالى من حيث النية والتوجه. وخلال هذا الأوقات هو يؤدي الفرائض في أوقاتها ولا يسوّف، فيعطي للصلوات الواجبة ساعة كاملة لجميع الصلوات، ومع ذلك هو يوفر ساعة أخرى للمستحبات خلف الصلوات. وساعة للأكل للتزود بالطاقة من أجل الطاعة والقيام بأموره على أحسن وجه. فبحسبة سريعة نجد أن ثلث عمر الإنسان قد مضى في النوم، وثلثًا في العمل، وقليلاً في العبادة والطاعة. هذه الأوقات التي تمر سريعًا وتتلاشى ولا تعود تترك حزنًا في نفس الإنسان إذا ما وعاها، لأنه سيجد أنه كان بإمكانه صرف الوقت بشكل أفضل لو كان قد فكر وقرر وسعى. وهنا لابد من أن نلفت الانتباه إلى ضرورة عدم التحسر على وقت قد قضاه الإنسان في خدمة المؤمنين، خصوصًا لو كانوا الأقربين، بل هي من الأمور الراجحة عقلًا وتكليفًا. فسيرة العقلاء والنبلاء من الصالحين تشير إلى أن خدمة المؤمنين تسلك بالإنسان سريعًا نحو رضا الله تعالى وتؤهله لنيل جنته، فتأمل.
خلاصة: الحزن والتحزن أمر محبوب ومطلوب إذا ما كان الحزن في رضا الله وأمر ناهض ومهم، بخلاف الحزن على توافه الأمور، فلا ينبغي للعاقل صرف وقته وطاقته في الحزن على أمور زائلة فانية، وإن كان يحبها ومعتادًا عليها، خصوصًا إذا لم تكن في رضا الله تعالى.