قال تعالى: ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾ سورة المدثر – الآية ٤، التطهير في الآية الشريفة كناية عن ضرورة التورع عن الشبهات، فضلًا عن المحرمات، بل وعن كل أمر يستلزم الدخول في حالة النجاسة المعنوية التي تبعد العبد عن دخول ساحة الحق والتي تستوجب أول ما تستوجب أن يكون الإنسان على طهارة تامة دائمة. فساحة الحق لا يدخلها من كان يتلبس بالنجاسات تارة والطهارات تارة أخرى لكونه امتنع عن العروج في مسالكها دونما طهر معنوي تام ودائم.
● الورع عن محارم الله تعالى لا يكون إلا بتوطين النفس على الابتعاد عن الشبهات، بل وكثير من المباحات التي من شأنها شغل الإنسان بها والركون إليها والاعتياد على إتيانها فتقربه من الشبهات والتي بدورها تدخله في تخوم المحرمات. قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم “من رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه“. فالعباد المتوجهون والسالكون يأنفون من المضي في هوى النفس، لذا تراهم يتوقون بحذر شديد، ويتحرزون بأشد ما يكون التحرز خلال معاملاتهم اليومية مع الخلق. وهم أيضًا شديدو التعظيم لله وأوامره ونواهيه، فلا يتهاونون مع النفس ولا يدخول ساعات المكروهات خشية الوقوع في المحرمات.
● والورع مرتبط بالزهد أيما ارتباط، فلا ينفكان في المقام، ومن تلبس بأحدهما أدرك الآخر؛ لأن الورع آخر درجة في مقام الزهد في منظور الناس العاديين، وهو أول درجة في مقام الزهد عند الأولياء.
الورع ودرجاته :
١- الامتناع عن القبائح حفظًا للنفس
وهو أمر جلي وواضح؛ إذ إن من البديهي لمن يريد أن يدخل في مقام الورع ألا يأتي المحرمات ولا يقترب من الشبهات، ولا يأتي السوء من القول والفعل، ويغض بصره ويصون لسانه ويكف يده.
٢- الازدياد من الحسنات
وهو في مقابل الامتناع عن إتيان القبائح؛ لأن الإكثار من الأفعال الحسنة والقيام بأداء الواجبات الاجتماعية خدمة للمؤمنين قربة لله تعالى وبإخلاص شديد من شأنه تحصين النفس عن الوقوع في الزلل والخطأ.
٣- صيانة الإيمان
ومن آثار الورع حفظ إيمان المؤمن وصيانته وجعله في مصاف الذين يخشون الله تعالى ويراقبونه في حركاتهم وسكناتهم على الدوام، ولذلك فهم لا يُمنُّون أنفسهم بخطيئة ولا يقترفون منكرًا يُغضب الله تعالى ويخرجهم من حالة الإيمان.
٤- يخلق الوقاية
والورع حاله حال الزهد، بل الورع درجة أعلى من حيث اتقاء الوقوع في المحظورات بالابتعاد عن الشبهات، بل والمباحات. فالورع يصد صاحبه عن الدخول فيما ليس من شأنه، خصوصًا حال الاختلاط بالناس والتعامل معهم وإن لم يكن فيه خلل أو خطأ. ولتوضيح الفكرة لا بأس بضرب المثال الآتي:
● هب أن إنسانًا يدخل السوق ليتبضع ويشتري ما يشاء، ولأن من عادة المشترين التأكد من سلامة المنتج، فتراهم يطلبون تذوق الفواكه مثلًا فيسمح لهم البائع. هذا الأمر ليس فيه مخالفة شرعية لأنه بإذن مقيد من صاحب البضاعة، إلا أنه قد يجر رجل صاحبه في الميول لتذوق ما يريد فعلًا شراءه إلى ما لا ينوي شراءه فعلًا، وبذلك يبتعد عن الورع ويدخل في الشبهات أو المحظورات.
الخلاصة: هذه الصفات لا تختص بالأولياء، بل يتوجب على جميع الناس التحلي بها؛ لأنها من ضرورات التقوى التي ينادي بها القرآن الكريم ليل نهار، قال تعالى ﴿لَيْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّلِحَتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا ٱتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّلِحَاتِ ثُمَّ ٱتَّقَواْ وَّآمَنُواْ ثُمَّ ٱتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ وَٱللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ سورة المائدة – الآية ٩٣، فللدخول في أهل الآية المباركة يتطلب توفير صفة التقوى (التي تحتوي على صفة الورع) لينال العبد بذلك صفة الإحسان التي يحبها الله تعالى. وربما يسأل سائل كيف للإنسان العادي الذي يمارس أنشطته بكل يسر وأريحية عدم الغفلة والتنبه لهذه الأمور الخفية التي غالبًا ما تغيب عن أذهان الناس حال تعاملهم اليومي؟ والجواب هو بوضع خطة يومية واستذكار متواصل وسعي حثيث ومستدام من قبل الإنسان لأن يبقى عالمًا بحاله وفاهمًا لموقعه من أوامر ونواهي الدين، وبالتالي من الله، فيجمع قواه ويُهيِّئ نفسه قبيل الدخول في أي أمر حياتي سواء أكان مع الأهل أو الأصدقاء، أو في العمل أو السوق ونحوها. وعندما يتضح هذا الهدف فيجب أن تكون الهمّة عالية بعلو الهدف الموضوع (رضا الله)، ولتحقيق الهدف بوجود الهمّة يتوجب توفير الروح التي تنطلق لتحقيق الهدف مستعينة بكل الصفات والمقومات التي يحتاجه الإنسان ليبقى متزنًا هادئًا إيجابيًا ومتقيًا في سلوكه اليومي مع الناس، فلا يخطئ ولا يخرج عن الأدب في التعامل، ولا يجرح الآخرين ولا ينال من أعراضهم؛ لأنه يعلم أنه مراقب من قبل الله تعالى الذي سيحرمه بركة التوجه ونيل الفيوضات إذا ما تعامل مع الناس بأسلوب يخدشهم أو يحط من كرامتهم، أو حتى لو اقترب من المساس بما ليس من شأنه ولا يعنيه.