قال تعالى (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ) سورة النحل، آية ١٢٧، معنى لفظة “صبر“: الصَّبْرُ حبس النفس عن الجزع، الشكوى لله لا تتنافى مع الصبر مطلقًا، بل هي من مظانه، والشكوى لله محمودة حال الصبر على المصيبة، حينما تختزن النفس البشرية الألم لحصول مصيبة ما ولا تبديه وتكتمه وترجع الأمر لله في الشكوى فإنها تكون نفسًا صابرة محتسبةً راضية.
قال الله تعالى في صبر أيوب عليه السلام: ﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ﴾ سورة ص، آية ٤١، وقال أيضًا في مدحه عليه السلام (إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا ۚ نِّعْمَ الْعَبْدُ ۖ إِنَّهُ أَوَّابٌ) سورة ص، آية ٤٤، جاء عن أمير المؤمنين عليه السلام: “الصّبر صبران: صبرٌ على ما تكره، وصبرٌ عمّا تُحبُّ“ نهج البلاغة، الحكمة ٥٥، والصبر على المصيبة فرع الصبر الأول، وكما كان التوكل من أصعب المنازل فالصبر كذلك من أصعبها وأوحشها على الناس.
فالصبر يحتاج لتريب وتمرين وتهيئة النفس التي اعتادت في غالب الأوقات على الخير والرخاء والأعطيات والمنح، إنما يستطيع التحكم بنفسه والصبر على المكروه وعدم الجزع وعدم إظهاره للناس من كان متحكما في نفسه مرتقيا بها نحو مقام المحبين الذي يتلذذون بالبلاءات ويشكرون الله على المصائب وهم من وصل لمقام التسليم لله تعالى.
من الجفاء ألا يظهر العبد الحاجة لله تعالى حال وقوعه في المصاعب ووقوع المصائب عليه بل وليس من العقل في شيء لأن لا قوة تستطيع أن تتدارك الإنسان وتنتشله من همومه والبث الأحزان بكل راحة نفسية لها سوى الله تعالى.
درجات ومنازل الصبر:
١- الصبر عن المعصية:
وهذا النوع من الصبر على منازل وأشكال فهناك صبرٌ عن المعصية خوفًا من الله تعالى وهناك صبرٌ عن المعصية حياءً من الله تعالى وهناك صبرٌ عن المعصية حبًا في الله.
● فالصّبر عن المعصية حبًا لله تعالى هو الإيمان به وهو سبب يمنع العبد من اقتراف الذنوب وذلك لأنه يكون دومًا بمحضره فهو يراه ويراقب تصرفات وسلوكه. ومن كانت هذه حاله من لضروري أن يعقد قلبه على حب من يكوون دومًا بحضرته فيستأنس به ويدخل السرور لوجوده معه. ولأن الله أقر للعبد من حبل الوريد صار من الضروري أن يستشعر الإنسان هذا القرب عبر وسائل المحبة لأنها أيسر الطرق وأنسبها للعبد “إلـهي مَنْ ذَا الَّذي ذاقَ حَلاوَةَ مَحَبَّتِكَ فَرامَ مِنْكَ بَدَلاً، وَمَنْ ذَا الَّذي اَنـِسَ بِقُرْبِكَ فَابْتَغى عَنْكَ حِوَلاً“من مناجاة المحبين في الصحيفة السجادية للإمام علي بن الحسين زين العابدين (عليهما السلام)، فهذا الصنف من العباد إنما ينصرفون عن المعصية ولا يأتونها تشوقًا لله تعالى واستشرافًا لمودته.
● وصبر عن المعصية خوفًا من الله تعالى وحذرًا من وعيده بالنار فهو يرى نفسه دومًا أضعف من أن يتحمل المصاعب البسيطة في هذه الدنيا مقارنةً بأهوال يوم القيامة فيسلم الأمر لله ويتجنب المعاصي صبرًا عنها بسبب خوفه من التبعات وهو من أقل أنواع الصبر شأنًا لأنه من شيم العبيد لا الأحرار.
● وصبر عن المعصية حياءً وخجلًا من الله تعالى وهو من أرقى الصبر عنها نوعا وأرفعها منزلة لأنه من شيم الأحرار. فالعبد الصابر عن إتيان المعاصي حياءً من الله تعالى الذي هو دائما بمنظره ومحضره يكون قريبًا منه جدًا وتكون نفسه هائمة فيه تتلمس رضاه في ألا يراها في موقع يكرهه لها فهي تحتشم من أن تزل فتنالها نظرة عتاب من الله تعالى.
٢- الصبر على الطاعة:
وهذا النوع من أرفع درجة من الصبر عن المعصية لأن الصبر عن المعصية ترك لفعل معين، والصبر على الطاعة أداء لفعل بمجهود معين، وهو أيضًا يشتمل على الصبر عن المعصية في طياته، قال تعالى: ﴿إنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ﴾ سورة العنكبوت، آية ٤٥، فلكي تكون مصليًا بمعنى الاتصال الحقيقي عليك أن تبتعد عن إتيان المعاصي واقترافها أولًا حتى تقبل في المصلين، وإلا صارت محاولاتك للتواصل غير مقبولة. فلقبول الصلاة من العبد يتوجب:
● المحافظة عليها من الآفات، أي المعاصي.
● أداؤها في أوقاتها.
● المحافظة على شرائطها وأركانها.
● صيانتها من الرياء والسمعة.
● صيانتها من النقص.
● تزينها بالإخلاص والخشوع وحضور القلب.
● تحسينها بمطابقة الحكم الشرعي.
● عدم الإخلال بشيء من آدابها وسننها وهيئتها.
إذا أتقن العبد هذه الأمور اقترب من القبول لأن النور يدخل إلى قلبه فيعصمه الله من الوقوع في المعاصي. والصبر على أداء المستحبات من صلاة وصيام وصدقة وغيرها من الأمور التي تحتاج إلى كثرة ترويض واستدامة تمرين وتأنٍ في المسير، وهو ما يحتاج إلى وقت طويل وصبر شديد لئلا تنهزم النفس وتقع فريسةً للشيطان والوساوس.
٣- الصبر في البلاء:
وهو الصبر حال وقوع المصائب التي لا انفكاك للناس كلهم عنها فلا يخلو عبد من الوقوع في المكاره ولو كان محتاطًا وحذرًا منها؛ لأنها تكتب عليه ويبتلى بوقوعها عليه، كموت حبيب وخسارة مال وفقدان جاهٍ أو سلطانٍ ونحوها. وهذا النوع من الصبر يكون مرفوقًا بملاحظة حسن جزاء الصابرين وما وعدهم الله تعالى به من مقامات، كما أن هذا النوع من الصبر حاتٌ للذنوب ومخلصٌ صاحبه من كثير من العتاب؛ لأن الله تعالى لا يجمع على عبد مصيبتين في آن واحد فتكون المصيبة نجاة له من طوق ذنب قد قام به سلفًا فيكرمه الله تعالى بتخليصه من ربقة ذنبه.
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ سورة آل عمران، آية ٢٠٠ وقد خص:
● الصّبر في ﴿اصبروا﴾ في البلاء.
● الصّبر في ﴿وصابروا﴾ عن المعاصي.
● الصّبر في ﴿ورابطوا﴾ على الطاعات.
ثم ذيلها بتقوى الله ﴿واتقوا﴾ بمعنى أن يكون كل ذلك: لله وبالله وعلى الله وهي منازل مختلفة:
● “الصبر لله“: هو الصبر عن المعصية أو على الطاعة لأجل الثواب والمغفرة.
● “الصبر بالله“: هو الصبر بقوة الله وتأييده لعلم العبد أن لا حول ولا قوة له على شيء.
● “الصبر على الله“: هو الصبر على أوامر الله تعالى ونواهيه وأحكامه.
تنويه لابد منه: إن مقام الصبر مقام ذو منازل وأحكام، ومنازله ليست متباعدة عن بعضها بعضًا، بل هي متداخلة فيما بينها. وليس للعبد أن يلزم نفسه بمنزلة من دون غيرها فيأنس بها ويحرم نفسه المنازل الأخرى، بل إن هذا الأمر غير ممكن، فمن منا لا يتعرض إلى وساوس الشيطان ليحرف توجهه عن الله تعالى؟ ومن منا لا يعارضه الشيطان حال توجهه لله ليقعده عن الطاعة؟ ومن منا لا تنزل به مصيبة تؤذيه وترهقه؟ إذًا فكل هذه الأمور من السنن الطبيعية التي خُلق الإنسان متلبسًا بها طوال حياته ليبتليه ويمتحنه ويقيمه. ومن هنا صار علينا أن ندرك بأن الله تعالى يريد منا الصبر بكل أنواعه ومنازله ودرجاته لنرقى ونسير إليه ونكون في مصاف المحبين الذين قربهم لله تعالى يشغلهم عن كل شيء دونه سبحانه وتعالى.