قال تعالى (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) سورة القلم، آية ٤، الخُلُق هو ما يتصف به الإنسان في قوله وسلوكه، سواء أكان خُلقًا طيبًا أم سيئًا. والخُلُق لفظة تجمع الصفات في طياتها وتكون شخصية صاحبها. وإنما يعرف الناس بأخلاقهم، أي بما يحملون من صفات يتعاملون مع الناس وفقًا لها. فالكريم هو صاحب صفة الكرم فمضمن أخلاقه البذل والعطاء، وهكذا حال الحسود الذي هو صاحب صفة الحسد والذي يتمنى زوال النعمة من غيره.
ولقد شهد الله سبحانه وتعالى لنبيه الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بأنه متمكن ومهيمن على الصفات العظيمة بالغة الحسن حينما قال في حقه: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ سورة القلم، آية ٤، فأخلاقه مستمدة من القرآن العظيم؛ لذلك لا يوصف بالعظمة إلا من نهل من العظيم، ولا يمكن أن نطلق على إنسان ما أنّ له صفة معينة إلا حينما يكون ذلك الشخص متصفًا فعلًا بالصفة ومتشربًا بها ومستديمًا عليها، فتكون من أفعاله أو أقواله العفوية التي لا يتكلفها، فتكون صادرة عن وعي وإرادة ومن دون تصنّع أو تكلّف، والحال هذه يكون الرسول الأعظم سيد المتخلقين بالحسن من الصفات من الأولين والآخرين؛ لأنه جمع كل الصفات الحسنة الجميلة والعظيمة بشهادة القرآن الكريم له.
وخصت صفة العلم والجود والصبر من بين كل الصفات لتمكن – حال توافرها – صفة الخلق عند صاحبها، فبالعلم يتمكن المرء من معرفة المعروف وتميز صاحب الحاجة من عدمه ومعرفة مقدار البذل والعطاء ووقتهما ومستحقهما وموضعهما، فمن دون العلم قد يجنح الإنسان لصرف المال في غير موضعه ولغير مستحقه وفي غير وقته وبالمقدار الخطأ، فيدخل في السفه والإسراف.
وبالجود يتمكن الإنسان من البذل وإلا صعب عليه العطاء وإن كان عالمًا وعارفًا بضرورة المنح، فيمنع استبخالًا منه، وذلك لأن صفة الجود ليست متوافرة. فتوافر صفة الجود مع العلم ضرورية ليحثا صاحبهما على الإيثار.
وبالصبر يتمكن العبد من استحصال أعلى مراتب الأخلاق، فتحمّل أذى الآخرين من خلق العظماء ومنه كظم الغيظ. وإنما يحتاج المرء إلى الصبر مع الجود والعلم؛ لأن النفس تمانع صاحبها من تحمل أذى البذل وإن كان في موضعه الصحيح ولمستحقه الفعلي وفي وقته الضروري. وكفُّ الأذى من أن يصل للناس هو من الصبر، خصوصًا عند الخصومات التي قد يضطر فيها المرء إلى الدفاع عن نفسه، فلا يخرج منه ما يسيء لهم وإن كانوا ظالمين له وباغين عليه.
و تحسين الخُلُق على درجات ومنازل:
١- تحسين الخُلُق مع الناس:
وهذا ميدانه حسن معاشرة الناس المحيطين بك. فعلى الإنسان القيام بوظائفه ومسئولياته في الحياة وهو بين الناس بالشكل الذي لا ينفّرهم منه وأن يراعي حقوقهم عليه.
● لكل فرد من البشر قدر ومقام لا يتجاوزه؛ فالناقص من الناس والقاصر منهم لا يطلب منه أن يأتي بما يقوم به مَن هم في مقامات أعلى من الكمال عند الله تعالى الذي قال في محكم كتابه المبين: ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ سورة البقرة، آية ٢٨٦. وعليه يتوجب أن يعي العبد مقامات الناس حوله ويعرف مواقعهم ويتعامل معهم بكل أدب وأريحية، فذلك لا ينقص من الكمال ولا يزيد في الناقص.
● من اشتراطات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهم ما يسعه الناس وما يتحملونه، فيتوجب إدراك أن النصيحة باليسر والتحبب تأتي أكلها وإن كانت قاسية على صاحبها.
● وكلنا يعلم بأن لا كمال في هذه الحياة التي نعيشها إلا عند المعصومين عليهم السلام، والبقية لكل مقامه ودرجته، وعليه فنحن والمعصومون عليهم آلاف التحية والسلام في ابتلاء من الله تعالى، فهو مهيمن على عباده ومقهورون بقضائه وقدره وليس لنا مفر مما كتب لنا وقرر بحق مصائرنا، قال تعالى: ﴿ مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا ۚ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ سورة الحديد، آية ٢٢، وبمقتضى هذا الفهم نعي بأن نقر بما كتب لنا وترتاح أرواحنا عن طلب ما في أيدي غيرنا، وهذا لا يعني ألا نحاول جاهدين في تحسين أخلاقنا والسمو بأرواحنا، بل هو مدعاة لأن ينظر العبد فيما وصل إليه من مقام ويقارنه بما يريده الله تعالى له، فيعمل على الوصول للأفضل والأحسن قربًا من الله تعالى.
● ومن حسن معاشرة الناس أن يكف عن أذى الخلق حتى الحيوانات والبهائم، ولا يرى لنفسه فضلًا أو سلطانًا عليهم وإن كان في حقيقة الأمر أفضل رتبة منهم كأفضلية رتبة الإنسان على الحيوان، غير أن هذه الأفضلية لا تعني سلبهم حقوقهم والعمل على إيذائهم.
● ومن حسن المعاشرة بأفضل الأخلاق أن يوقر الكبير ويرق على الصغير ويساعد الضعيف ويحترم العالم ولا يتعالى على الجاهل ويعطي المحتاج، فكل هذه الامور وأشباهها تقرب العبد من الله تعالى، وبدورها تقيم وزنًا وتعلو مقامًا عند الناس.
٢- تحسين الخُلُق مع الله تعالى:
و تحسين الخُلُق لا يكون إلا بالوقوع بين الخوف والرجاء الذي يجعل العبد متوازنًا في مسيره، فإن أحسن في عمله شكر الله على توفيقاته واستزاد من فيوضاته، وإن أخطأ تأسف على تقصيره وطلب المغفرة عن هفواته.
● أن يعلم العبد بأن المسير إلى الله تعالى يتطلب شوقًا وتوفيقًا، ولا يستحصل ذلك مع ارتكاب الذنوب والآثام، فإنهما متناقضان، ولا يمكن دخول ساحة الطهر بالنجاسات مطلقًا.
● أن يقر العبد بنقصه وقصوره، وأن يتيقن بأن أي كمال في عمله لايزال ناقصًا، فيتعذر من التقصير فيه، وأن أي أمر مهما كان صغيرًا أو حقيرًا يصدر من الكامل (الله تعالى) يكون كاملًا ويحتاج إلى شكر وتعظيم.
● على الإنسان الذي يريد أن يصلح ما بينه بين ربه أن يعزم في نيته الإخلاص ويسأل الله تعالى المدد والتسديد وأن يصونه من كيد الشيطان الذي لا يسوؤه أن يرى العبد مطيعًا خاضعًا أمام سيده، فالطاعة والخضوع لله من الأخلاق التي يتوجب إتقانها والتفنن فيها لحضور ساحته تعالى وتحصيل فيوضاته، ولكي يستحق العبد أن يكون مرآة تسطع في قلبه أنوار العزة الربانية. فمن دون الطاعة والخضوع بتمامهما لا يصل العبد منا إلى حسن الخُلُق مع الله تعالى.