قال تعالى: ﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرض هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجاهلون قَالُواْ سَلاَمًا﴾ سورة الفرقان، آية ٦٣، في الآية الشريفة مدلولات غاية في الأهمية منها: أن يتصف المؤمنون بالرفق واللين خلال سياحتهم في الأرض، وهذا يدخلهم في رحاب العبودية الحقة؛ إذ وصف عباده بأنهم أصحاب وقار وتذلل وتواضع في تعاملهم مع الناس.
ليس المراد بكلمة يمشون هنا هو مجرد المسير، بل المراد منه حسن التعامل مع الناس كل الناس، فتوصيهم الآية بضرورة اتباع أفضل الأساليب في حال الاحتكاك بالناس على مختلف جنسياتهم وأعراقهم وأصولهم ولغاتهم لا فرق في ذلك بينهم، وتوصيهم الآية الكريمة بأن يعرضوا عن الناس المنخدعين بالدنيا والترفق بهم أيضًا في الرد وتحملهم وعدم الإساءة إليهم. فكل هذا من مستلزمات التواضع الذي هو صفة لعباد الرحمن.
والتواضع من الصفات الجليلة التي تحيي القلوب بها، فطابعها السكينة وقلبها الوقار وعنوانها اللين، وبها يتجنب الإنسان الكثير من الهفوات والزلات؛ لأن من شمائلها التأني وعدم الاستعجال.
التواضع على درجات ومنازل:
١- التواضع للدين:
وهو تمام الانصياع لما جاء عن الشرع المقدس من أحكام سواء عبر آياته الكريمة أو أحاديثه الشريفة. وهذا النوع من التعبد بالدليل القرآني أو الروائي يعد تذللًا وانقيادًا وخضوعًا لأمر الله تعالى ونهيه.
● ومن التواضع للدين عدم السؤال عن الدليل أو الحكمة من وراء الأمر الشرعي أو نهيه، فمجرد الأخذ بالحكم الشرعي هو تسليم بمحض الإرادة لما جاء عن الحق جلّ وعلا.
● فالمتواضع للدين لا يُعمل عقله في قبال النصوص الشرعية ولا يطلب تبيان الدليل لمجرد عدم فهمه للحكمة خلف الأوامر والنواهي.
● من التواضع للدين هو الامتثال المباشر بلا تأنٍ ولا توقف لفهم الأسباب من وراء الأوامر والنواهي، خصوصًا إذا كانت تمس حياته ومصالحه بشكل مباشر، فالمسارعة للتطبيق والتنفيذ دليل حياة القلب السليم الصافي المسلم لله تعالى.
● ويعد التوقف لفهم الحكم قبل تنفيذه مخالفة لقانون السلوك لله والمسير إليه لأن فيه تعطيل للتسليم، وهذا يعارض التواضع ومخالف له. أما معارضة الحكم الشرعي بسبب عدم تقبله العقلي له فهذا يعد عصيانًا وسقوطًا من طريق الدين القويم.
● ألا ينكر على أمر أو نهي جاء عن الدين لا بقلبه ولا بلسانه ولا بجوارحه.
● أن يسيطر على نفسه ويتحكم بها ويسمو بإيمانه ليكون أهلًا لتقبل الأحكام كما نص عليها الشرع لا كما يتصور أو يأمل العبد.
● التسليم للحق وإن عز، بمعنى ضرورة قبول حكم الشرع ولو كان صعبًا، فالحق أحق أن يتبع وألا يقبل بالباطل حتى لو كان في صالحه.
● أن يدرك العبد يقينًا أنه أجهل من أن يلم عقله بأسباب الأوامر والنواهي وإن شرحت له وأعطي الدليل. فليس معلومًا أن يتفق عقل الإنسان مع الدليل والبرهان. إنما يتوجب على الإنسان العاقل أن يتحلى بالبصيرة وأن يتجنب الشكوك والأوهام. فمن يمتلك البصيرة يستقيم في عمله وسلوكه لأنه قد وثق بالعلم الشرعي سواء تبين له الحكمة أو الدليل أم لم يتبين.
● إن مجرد السعي حثيثًا لتطبيق ما يأمر به الشرع دونما تباطؤ ولا تمهل ولا امتعاض ولا توقف، يحقق للعبد غايات القرب من الله، ويكون مستأهلًا لأن يتنور قلبه بنور الهداية فيزول كل وهم وشك، قال تعالى: ﴿إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا﴾ سورة الأنفال، آية 29 بمعنى النور الذي يفرق الحق من الباطل.
٢- التواضع للخلق:
والمقصود من الخلق هنا من رضاهم الله تعالى عبيدًا فهم لك إخوة وإن كانوا دونك في المستوى العلمي أو المعرفي أو المعيشي أو الاجتماعي.
رضاك بهم إخوة وعدم تكبرك عليهم من الحصافة والعقل، فالعبد لا يعرف حتى مقامه عند ربه وموقعه من رحمته فما بالك بموقع غيره من عباد الله الذين ربما كانوا أقرب لله منه وأكثر تسليمًا. فالتواضع لهم تواضع لله والتكبر عليهم تكبرًا على الله تعالى.
● وهنا قد خص التواضع للمسلمين وليس لعامة الناس؛ لأنه لا يجوز التواضع للمحارب من الكافرين ولا المنافقين. فلا يعقل أن يتخذ المؤمن من عدو الله تعالى أخًا وليس من التواضع التذلل للكفار والمنافقين، قال تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ﴾ سورة محمد، آية ١١.
● من التواضع للخلق عدم تعاليك على الناس وإن كانوا أعداءك مادام لهم حق عليك، فلا يجوز أن تنكره عليهم لمجرد عدم إسلامهم أو إيمانهم.
● ومن التواضع للخلق أن تقبل معذرتهم وأسفهم وتحملهم على ما يسعك من محامل الخير وحسن الظن، سواء كانوا صادقين في معاذيرهم التي ينسبونها أم كاذبين.
● ومن التواضع للخلق أن تقابل الإساءة بالإحسان والخير بالشر والكلمة الطيبة في قبال الكلمة الخبيثة، قال تعالى: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ﴾ سورة المؤمنون، آية ٩٦، لأن في هذا الخلق تقريبًا للخصماء لساحة الحق وتبيانًا لهم ما لم يكونوا يعرفونه من خلق الدين القويم وأخلاق الشريعة.
● ومن التواضع للخلق السؤال عنهم وابتداؤهم بالسلام، ومد يد العون لهم إن كانوا محتاجين، وإغاثة الملهوف، والأخذ بيد الضعيف، وغيرها من الأعمال التي تقرب العبد لله تعالى رجاءً لمثوبته.
● ومن التواضع للخلق كتم أسرارهم وستر عيوبهم وعدم فضحهم والإعراض عن أخطائهم في حقك.
● ومن التواضع للخلق التذلل والخضوع للأقربين، وبالخصوص الوالدين ومن هم في حكمهما والتصاغر أمامهم.
● ومن التواضع للخلق إبداء الشكر والثناء لأصحاب الجميل عليك كالمدرس والطبيب ومعلم القرآن ومقدم النصيحة الحقة.
● ومن التواضع للخلق حسن الاستماع لمتحدثهم وعدم مقاطعته وإتاحة الفرصة له ليكمل حديثه قبل التعليق برفق عليه.