قال تعالى: (لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) سورة الأحزاب، آية ٢١، الآية في صدد مدح من اتخذ من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قدوة وأسوة، فهو المعلم وهو المربي، وما يرتجى فيما عند الله تعالى لا يبلغه إلا باتباع الوسيلة الأعظم وهو النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والرجاء من المراتب العالية في إيمان الإنسان.
الرجاء هو طلب التسامح في أمر ما يقدمه الراجي للمرجو على أمل القبول. وهي صفة حسنة إذا تعلقت بالله تعالى، بل وهي مطلوبة أن يعيشها الإنسان في حياته؛ لأنّ أصل انطلاقة أغلب البشر واقعٌ بين الخوف (الوعيد بالنار) والرجاء (الوعد بالجنة)، فلو فقد العبد الرجاء لأصابه اليأس، وهو أمر مُحرّم شرعًا وعقلًا. فالوقوع بين هاتين الصفتين يعطي العبد توازناً في حياته، ويجعله يسير على الطريق المستقيم ويوضح له الهدف الذي أمامه، فيتمسك بما يبعده عن الوعيد ويقربه من الوعد.
فاللجوء إلى الله تعالى حال ترجّيه قلبيًا عبر الدعاء أو الاقتداء العملي بالقدوة المثلى إنما هو أسلوب تربوي ينتشل الإنسان من الضيق إلى الفرج ومن الضعة إلى السمو.
الرجاء يثبت حسن ظن العبد بالله تعالى، وهو أمر راجح ومحبب ويثاب عليه العبد، والرجاء كصفة ومقام مرتبطة باسم “المحسن“، وحيث إن المحسن لا يخيب من رجاه (أَيَحْسُنُ أَنْ أَرْجِعَ عَنْ بابِكَ بِالْخَيْبَةِ مَصْرُوفاً، وَلَسْتُ أَعْرِفُ سِواكَ مَوْلىً بِالإِحْسانِ مَوْصُوفاً؟ كَيْفَ أَرْجُو غَيْرَكَ وَالْخَيْرُ كُلُّهُ بِيَدِكَ) – (مناجاة الراجين).
الرجاء على درجات:
١- يبعث العبد على الاجتهاد
فالحقيقة تقول إنه لولا رجاء المثوبة وانتظارها وتأمل الجزاء وترقبه ما عمل عامل منا بني البشر إلا أولئك الذين قد عبدوا الله حق عبادته. وكلما زاد العبد في سعيه بزاد الرجاء كلما اقترب من هدفه، فتخف عليه الأعباء وتسهل في نظره الصعوبات، فيزداد شوقًا لأن يكون أقرب، وتكون اندفاعته نحو منبع الفيض واثقة، (يا مَنْ إذا سَأَلَهُ عَبْدٌ أَعْطَاهُ، وَإذا أَمَّلَ ما عِنْدَهُ بَلَّغَهُ مُناهُ، وَإذا أَقْبَلَ عَلَيْهِ قَرَّبَهُ وَأَدْناهُ) – (مناجاة الراجين).
٢- يولد حالة التلذذ حال الخدمة
التلذذ بالخدمة يعني الاستئناس بالقرب من ساحة الفيض والنور الرباني. هذه حالات شعورية يتحسسها من أخلص توجهه لله تعالى وانشغل بذكره فيدخل الاطمئنان إلى نفسه ويتذوق حلاوة عطائه وإلهاماته (أَسْأَلُكَ بِكَرَمِكَ أَنْ تَمُنَّ عَلَيَّ مِنْ عَطآئِكَ بِما تَقَرُّ بِهِ عَيْنِي، وَمِنْ رَجآئِكَ بِما تَطْمَئِنُّ بِهِ نَفْسِي) – (مناجاة الراجين). أما حالة استشعار اللذة وتوهجها في روح العبد، فهي تعتمد على شدة سعيه ومجهوده، فليس كل الواصلين على درجة واحدة وليس كل المقتربين في مكان واحد. ويقينًا فإن طبيعة هذا التلذذ والاستئناس تختلف في ماهيتها عن لذة المعصية أو اللذة المحللة التي يشعر بها الإنسان لا بحقيقة روحه وقلبه، بل تكون مؤقتة وآنية، وسرعان ما يتلاشى أثرها كلذة حلاوة الطعام والشراب وغيرهما.
٣- يحفز العبد على تجنب المنكرات
فالرجاء توهجٌ في القلب نحو المحسن الذي يرتجى منه المدد، وهذا التوهج يمنع الإنسان من التفكير في توثب المنكرات والخبائث لتضارب موقعيهما، فمحل المنكرات هو التسافل ومحل الرجاء هو السمو، وشتان بين المكانين (وَمِنَ الْيَقِينِ بِما تُهَوِّنُ بِهِ عَلَيَّ مُصِيباتِ الدُّنْيا وَتَجْلُو بِهِ عَنْ بَصِيرَتِي غَشَواتِ الْعَمى) – (مناجاة الراجين).
الخلاصة: إن صفة الرجاء من الصفات التي تعلن استكانة العبد أمام خالقه، ويرجو فيها العفو والصفح والتسامح، وهو لجوء اضطراري نابع عن حاجة ماسة وإدراك بقوة المُلجئ وعموم إحسانه. ومن منا لا يحتاج إلى دعم نفسي وروحي ليطمئن القلب ويسكن الفؤاد، خصوصًا في أوقات العسرة والضيق. ومن هنا يتوجب علينا التفكير مليًّا ومرارًا وتكرارًا: هل من الممكن أن نكون مطيعين ومستسلمين لله تعالى بحيث نكون قريبين منه تعالى في كل أوقاتنا بحيث إذا اضطرتنا الظروف وسألناه عفوه ورحمته أعطانا وأمدّنا لأننا كنا مستأهلين؟ هل هذا فعلًا ما يجب أن يكون عليه فهمنا وتوقعنا؟ أم أن الله تعالى يحثنا باللجوء إليه والدخول في ساحة قدسه كيفما كنا حتى وإن لم نكن من أهل الكرامة عليه، ومع ذلك فهو يحسن إلينا ويمدنا بألطافه ويمنحنا ويهبنا ويقربنا؟
من هنا ننطلق لفهم ما يفعله إحسانك أيها العبد على أخيك المحتاج. فثق بأن له مردودًا إيجابيًا غاية في الرقة واللطافة ومن ورائه ثواب غاية في العظم والسمو، فلا يجب أن نغفل عن إتيان العمل الصالح وخدمة المؤمنين أبدًا في كل أوقاتنا وأيام حياتنا، فهي أسهل السبل لإدخالنا في سلك الرحمة والإحسان، وجعلنا من أهل الرجاء المستحقين للإجابة.