قال تعالى (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ)سورة سبأ، آية ١٣، نعمة الشكر لا يؤدي حقها إلا القليل من البشر، ولكل نعمةٍ منعمٌ يستوجب شكره عليها، نعت الله تعالى نعمتي الإسلام والإيمان في القرآن الكريم بالشكر ﴿إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ﴾ سورة الزمر، آية ٧، سهّل الله تعالى لعباده الاستدلال عليه بالنعم التي يستوجب الشكر لله عليها وهي جمة وكثيرة لا يمكن إحصاؤها ﴿وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾ سورة النحل، آية ١٨.
مجرد إدراك وتيقن أن النعمة من الله تعالى هو شكر. قال داود عليه السلام: “يا رب كيف أشكرك والشكر نعمة أخرى منك أحتاج عليها إلى شكر آخر” فأوحى الله تعالى إليه: “يا داود إذا علمت أن ما بك من نعمة فمني فقد شكرتني“.
● شكر القلب: هو أن تدرك بقلبك وذهنك أن النعمة التي أنت فيها من الله تعالى.
● شكر اللسان: هو أن تلهج بالثناء على الله تعالى حمدًا وتعظيمًا على النعم التي أعطاك.
● شكر الجوارح: وهو القيام بالطاعة على أكمل وجه كالصدقة والبذل في سبيل الله تعالى.
● ولأجل القيام بشكر النعم لابد من معرفة النعمة بإدراكها في ذهن الإنسان، ثم قبول النعمة بإظهار الحاجة لها والثناء عليها بأن يصف المنعم بالجود والكرم وغيرهما.
درجات ومنازل الشكر لله :
١- الشكر لله على الأشياء المحبوبة
فكل أصحاب الشرائع والملل يتفقون على ضرورة ووجوب شكر النعم بما أوتوا من نعم يستعملونها لبذل الشكر لله تعالى على نعمه. فإذا استخدم العبد قلبه لشكر الخالق فقد استعمل آلة وجب شكر الخالق عليها لأصل منحه إياها ليشكر بها، وكذا في اللسان والجوارح فكل ما يملك الإنسان من طاقة وقوة إنما هي في الأصل من الله وهبها إياه ابتداءً، ولا يزال العبد غافلًا عن شكر الخالق على وجودها عنده، ولا يتذكر أنها منّةٌ منه تعالى تستوجب الشكر عليها إلا حين يستعملها ليشكر بها على نعمة ما قد أعطاها الله تعالى له. فمن سعة رحمة الله تعالى بعباده أن قبل منهم الشكر بتلك الآلات (القلب واللسان والجوارح “كاليد والرجل“)، وهي في أصلها نعم تستحق شكر الخالق عليها.
● شكر ما فيه رخاء للعبد من الأمور التي يغفل الكثيرون عنها وهم ساهون في فرحتهم بالحصول عليها وغارقون في غمرة السعادة بها. وهذا هو حال الإنسان إذا ما أنعم الله تعالى عليه وأكرمه ووسع في رزقه تراه قليل الشكر ولا يأبه بأن يتوجه إلى الله تعالى بالثناء والحمد لينال الزيادة والسعة ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ سورة إبراهيم، آية ٧.
● والشكر على ما فيه خير للعبد لا يكون على حقيقته إلا باستعمال القلب واللسان والجوارح معًا، فيدرك بقلبه ويعقده بالاطمئنان للخالق وبهذا يحسن به الظن. ويقول بلسانه تلفظًا ما ينم على الحمد والثناء بذكر صفاته الجمالية العظيمة ويقدم بجوارحه ما يعلم به أداءه للشكر كبذل الصدقة وغيرها لمستحقيها.
٢- الشكر على الأشياء المكروهة
وهذه الدرجة من الشكر أعلى من الأولى؛ لأنها تكون على الوقوع في المكاره والصعاب، وهو أمر لا يحبه العبد ولا يرتضيه لنفسه بخلاف الشكر على النعم فهو محبوب ومطلوبة الزيادة فيه. فشاكر المكاره من أول الناس الذين يُدعون لنيل رحمة الله تعالى بدخول الجنة لأنه حُفّ بالمكاره. فشاكر الله تعالى على المكاره التي يمر بها والمصاعب التي يقع فيها هو من أهل القرب والمحبة عند الله تعالى؛ لأنه تستوي عنده المسرات والمضرات مادامت آتية من عند الله تعالى العالم الخبير الحكيم اللطيف الودود. وهذا مستوىً فوق العبد العادي، وهو مرتبة تحتاج إلى كثير من التدريب وتوطين النفس على الهدوء والاطمئنان حال الوقوع في المصائب، ولا يتأتى ذلك لأيٍّ كان، بل لتلك المرتبة أهلها الذين يعملون ليل نهار على إصلاح ذواتهم وتمرين أنفسهم على كظم غيظهم عند الغضب، ورفع نظرهم للسماء بالشكاية من دون تلفظ عند الوقوع في الظلم، والتبسم من دون استياء إذا ما لحقهم من قريب أو غريب أي ضيم، والعفو عمن أساء لهم عند اقتدارهم عليه.
● أهل الشكر حال الوقوع في ما تكرهه أنفسهم، عبادٌ شملتهم الرحمة الخاصة، فصاروا لا يتصرفون إلا وفق ما يرضاه ويقبله الله تعالى، وهم بهذا شاكرون حامدون راضون قانعون مستسلمون لإرادته ومشيئته، وهم على خلاف باقي الناس تراهم يستغفرون لمن ظلمهم، ويتوددون لمن خالفهم؛ لأجل إصلاحه وهدايته.
● هذا النوع من الشكر يحتاج إلى كثير من ضبط النفس والسيطرة عليها ولجمها والتحكم فيها في سائر ظروف الإنسان حتى لا يقع في مخالفة لأداء الشكر على البلاء.
٣- شكر لذات المنعم
والدرجة العظمى من درجات الشكر تتعلق باستغراق العبد في مشاهدة المنعم مشاهدة قلبية تشغله عن النعم نفسها، فيكون في دوام الشكر القلبي والجوارحي لحقيقة تعلقه بالمنعم الذي وهبه النور في قلبه. وهنا ليس همّ العبد التلذذ بالنعم التي يفيضها الخالق على بريته أو الصبر على المكاره التي يبتلى بها شكرًا وحمدًا وثناءً، بل همه أن يتواجد في ساحة القدس التي دعي إليها ليكون فيها ذاكرًا وشاكرًا على تخليصه من آفات التعلق بالدنيا والانطلاق نحو العروج لله تعالى.
● هذه المنزلة تستوجب أن يتصاغر العبد ويتضاءل أمام القوة الجبارة التي منحته هذه القدرة والطاقة للمثول أمامها، وهو أن يستشعر الضعة والهوان أمامها، والتذلل بنسيان المقام الذي وصل إليه بمنةٍ من الله تعالى ولو شاء لحرمه هذا القرب والوصال.
● وفي حال بلوغ التصاغر والاضمحلال أمام عظمة الله تعالى وهو منشغل بذكره وشكره تأتيه الفيوضات والنعم تترا عبر النور الذي فتح له في قلبه، فيتلذذ بها أداءً لشكره وحمدًا لعطائه وثناءً على مِنَحه الخاصة له، فهو بذلك يعظم المنعم لا مجرد النعمة التي أعطيت له.
● أهل هذه الدرجة من الشكر لا يكونون إلا من اصطفاهم الله تعالى وأخلصهم له، وهم الأنبياء والمرسلون والمعصومون والمقربون عليهم السلام والأولياء والصالحون.