ما معنى العزم
قال تعالى: ﴿ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾ سورة آل عمران، آية ١٥٩، العزم هو أول الشروع في التحرك لتحقيق أمر ما، العزم هو تحقيق القصد، والقصد هو النية، والعزم بداية تحقيق النيِّات لأفعال، ولا يتحقق القصد من غير عزم.
لا يتحقق العزم من نفس مكرهة، فالعزم مرتبط بالقصد، والقصد يأتي بطيب خاطر ولا يكون بالإكراه، فمادامت النفس تساير القلب في توجهه دونما تسليم واطمئنان فهي مكرهة عليه، وبالتالي لا يقع العزم منها موقع النفس الراضية المطمئنة وإن تجاوبت مع نداء القلب في توجهه لكثرة الترويض، العزم هو مرحلة متوسطة بين القصد – وهو إيجاد النية الخالصة مع السعي في تحقيقها – وبين الإرادة التي تتطلب بلوغ الذروة في العمل لتحقيق المقصد.
درجات ومراتب العزم :
١- رفض الهوى:
وهي أولى درجات العزم ومقدمة لمقام الإرادة التي تحقق القصد. فالتحكم في الهوى ومغالبة النفس البشرية على ما تريد وتطمح أمر يحتاج إلى موقف صارم وحازم من العقل المسئول عن إقامة اعوجاج النفس، فلا يمكن للإنسان الترقي والاستفادة من الفيوضات والدخول في ساحة القدس إلا بوجود روح متحررة من اتباع الهوى والاستئناس بنور الرحمة التي يتلقاه من عزم على رفض “الأنا“. وعند ذلك فقط تكون النفس قابلة للانتقال في الأحوال من مقام إلى مقام آخر، أي من مقام الأبرار الذي هو أول المقامات في هذا الطريق إلى مقام المقربين. فالأبرار يتأرجحون في أحوالهم خلال مسيرهم وعيونهم شاخصة على مقام المقربين، وهم بذلك يستفيدون من الكشوفات التي تحصل لهم وإن لم تكن بقوة كشوفات المقربين فعزمهم يؤهلهم لأن يمضوا ترقيًا خطوة فخطوة في درجات المقامات، وعندها يستديم لهم الأنس بنور الرحمة.
● لابد لنا أن نفهم أن هذه الدرجة من العزم يصارع العبد نفسه الميالة للدنيا والرجوع من حال الكشف للدنيا، فالنفس لازالت لا تطيق التحليق عاليًا، وتركن للدنيا فيتذبذب العبد في حالته بين الارتقاء بروحه في السماء وبين التسافل بجسده للأرض، وشتان بين المقامين. فهوى العبد يعيده للدنيا ومازال لم يحقق العزم التام فإنه سيراوح بين السمو والتسافل حتى يغلب العبد هواه، فتحصل عنده حالة التلذذ بنور الكشف والتي تعوض نفسه عن ملذات الدنيا بما يجعل نفسه تنشغل عن الهوى بما تجده في حالة السمو من أنس وراحة وملذة للروح.
● والإعراض عن الهوى يهيّئ للتخلص من الحجب المانعة من تلقي نور الرحمة والفناء خلال مسيرته في الحق، وهو مصدر الفيض الأصلي.
٢- الانقطاع عن الهوى:
وهي درجة تتبع درجة رفض الهوى، وهي لا تحدث إلا بعد التخلص من “الأنا“، فلا يرى العبد لنفسه مقامًا بعد أن تفانى في الحق الذي هو مصدر الفيض ومنه قد استأنس وتلذذ بما يحصله من كشوفات. فانقطاعه عن الهوى يعني استغراق العبد في نور الرحمة التي تشتمله وتحيطه، فينغمس في النور ويتشبع به، وتصير أخلاقه ومنطقه وسلوكه وفعله مرآة لذلك النور الذي حصل عليه بسبب عزمه على رفض الهوى.
● وإذا ما استغرق في أنوار الجمال والرحمة ذهل عن ظلام العودة للدنيا واستشرق بضياء الطريق، ولم يعد النور يأتيه متقطعًا، بل إن النور يحيطه من كل مكان، وهو أمامه يستدل به على الطريق نحو العروج لمقام المقربين، فيتقرب من أحوالهم شيئًا فشيئًا. وإذا ذهل عن ظلام العودة للدنيا خلال مكاشفته تجنب الضلال والغواية، وارتفعت الحجب من أمام عينيه، فيرى الحق ناصعًا واضحًا وإن تلبس على الآخرين من الناس.
● ومن منازل هذه الدرجة من العزم أن تحصل للعبد الاستقامة الحقيقية؛ حيث توضح له طريق الحق فيستقيم بكل قواه في المضي نحوه بيقين وخطىً ثابتة ولا تزعزع مسيره العواصف من الهوى وأعراض الدنيا وإن كانت كالجبال لما تجلّى له من كشوفات مقامات المقربين.
الخلاصة: لابد لنا من تأمل هذا المقام العالي الذي يدخلنا لمقام الإرادة، ومنه يحقق الإنسان حقيقة عبوديته؛ لأنه بالعزم على ترك المعاصي والتوجه بكل ما فيه من طاقة نحو الطاعة يحقق معاني العبودية.
● لا ينبغي اليأس في حال التقلب بين التقدم والتقهقر خلال ترويض النفس، بل إن هذا المقام هو مقام الترويض، وعليه فلا ينبغي الحزن إذا ما غلب الهوى صاحبه، بل عليه أن يجتهد أكثر لتخطي عقبات النفس الأمارة بالسوء وتزينات الشيطان التي تمنع من التحصل على نور الرحمة في القلب.
● العزم يعني تحويل النية إلى عمل به يقف الإنسان موقفًا يقربه من الله تعالى، فيسمو بروحه وعقله وقلبه عن مقتضيات هذه الدنيا ولوازمها، فينجو من مكائد الشيطان وأحابيله، فيتقرب من أهل الطاعة الحقيقية، وهم المقربون.