ما هو اليقين ؟
قال تعالى ﴿وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ﴾ سورة الذاريات، آية ٢٠، قال تعالى ﴿ كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ﴾ سورة التكاثر، آية ٥ و٦ و٧… ﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ﴾ سورة الواقعة، آية ٩٥، عرّف الإمام الباقر عليه السلام اليقين بقوله: “التوكل على الله والتسليم لله والرضا بقضاء الله والتفويض إلى الله“ الكليني، الكافي، ج ٢ ص ٥٢.
تعد منزلة اليقين أسمى غايات العوام من الناس، واليقين وسيلتهم الفعلية للسمو والعروج بالروح نحو أجواء الملكوت، كما أنه أولى خطوات الخواص من العباد وليس أول منزلة لهم لأن اليقين أول مبدأ انطلاق الخاصة وأول مقاماتهم لا تحصل من دون اليقين المرتكز في الروح.
يعد السفر لله من أشق أنواع السفر؛ لأن الطريق يعبّدها العبد بنفسه بالاستعانة بالله، فلكل قاصد نحو الملكوت طريق هيّأها بيقينه، فقدم السالك في هذا الطريق إنما تثبت بالاستفادة من عمق اليقين الذي ربّى عليه العبد نفسه خلاص مجاهدته لنفسه.
درجات ومنازل اليقين:
١- علم اليقين
وهو أول الدرجات، وهو تقبل الحق كما هو، ما ظهر وبان منه، وما استتر وخفي منه.
● حين يؤمن العبد بما جاءت به الشريعة السمحة ويقبله كما جاء ونزل ولا يجد في نفسه ما يفسد عقيدته ويعمل به فيأخذ بأحكامه ويأتمر بأوامره وينتهي عن نواهيه، يكون قد دخل في درجة علم اليقين، أي أنه علم يقينًا قلبيًا وعقليًا بأن الدين أمرٌ من أمر الله تعالى، وهو في مصلحة العباد على اختلاف مستوياتهم.
● وحينما يؤمن العبد بما خفي واستتر من شئون الدار الآخرة، وسعى في تهذيب نفسه ليحصل على نعيمها وابتعد عن المفاسد تجنبًا لعقاب الآخرة، وآمن بالجنة والنار وأحوال يوم القيامة، وسلم بوجود كل ما صعب عليه إدراكه، يكون قد دخل في درجة علم اليقين.
● ومن درجات علم اليقين أن يؤمن العبد بأن ما غاب عن باله وما ذهب عن فهمه لهو أكبر وأكثر مما استوعبه بعقله، فالعقل لا يحظى بما تحظى به الروح من فرصة لإدراك المغيبات وكشف حقائقها من قبيل العلم بالمغيبات وتلمس أهدافها وفهم حقائقها، وكذا الخوارق من العادات ومعاني المنامات الصادقة والمعاجز، فكلها أمور لا يمكن إدراكها بالعقل المجرد؛ لأنها ليست من سنخه ولا من قوانينه.
● إنما أتاح الله تعالى كشف بعض المغيبات لبعض عباده ليزدادوا يقينًا بها، وهي زادهم في العروج نحو ملكوته تعالى.
٢- عين اليقين
وأما هذه درجة فإنها درجة تفوق علم اليقين؛ لأنها لا تحتاج إلى استدلال بعلم منقول، بل تكون المشاهدة فيها والمكاشفة حقيقة للعلم، فيكون اليقين مبنيًّا على حضور شهودي ذاتي.
● وعين اليقين إنما تتحقق عند أهل السلوك لا بالمشاهدة الخارجية كما يشاهد أحدنا الآخر ولا بنقل الأخبار والاستدلال عليها بالعقل، وإنما تتحقق بالرجوع للفطرة السليمة والرقي في سبر حقائق عالم القدس.
● وعين اليقين هنا إنما تتحصل للسالكين الذين تساوت عندهم قوة الحضور والغيبة، فصاروا ينظرون للأمور بمنظار القلب فيحصل عندهم يقين تام لا يحتاج إلى الاستناد إليه بأي علم أو نقل أو خبر.
٣- حق اليقين
وهي درجة أسمى في اليقين، حيث إن العبد المتيقن لا يكتفي بالعلم بالشيء ولا بمجرد انكشافه له، بل بالعيش فيه. حق اليقين في عالم السلوك لا يحصل إلا حين ينقطع العبد عن علم اليقين وعين اليقين، فيكون مرآة لجلال الله وموضع تجلياته، فيكون الله تعالى كل شيء في ذاته وروحه، فينغمس كليًا في جلاله تعالى على اختلاف شدة هذا الجمال والجلال.
● وحق اليقين إنما يتوفر في قلب المؤمن مثل النور الساطع، فيضيء قلب المؤمن فيهتدي به في كل حركاته وسكناته، وليس الكثير من الناس يتحصل على هذه الدرجة، فهي درجة الأنبياء والصديقين، وهي على مراتب ومنازل عندهم.
● وحق اليقين إنما يُستشرف بالكثير من الرياضات والجد والاجتهاد في ذات الله تعالى، ومنه تنطلق الحكمة على لسان العبد وفي تصرفاته وسلوكه، فلا يقع في الخطأ ولا الزلل، ولا يظلم، ولا يرى لهذه الدنيا وحطامها في قبال النعيم الأخروي، لا بل في قبال الهدوء النفسي والسمو الروحي شيئًا.
● وجاء عن مولى الموحدين وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام أنه قال “لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقينًا“، وهذا يوصلنا إلى أنه عليه السلام بلغ منزلة من اليقين بالله تعالى أنه يرى الأمور بمنظار الله تعالى، فصار كما جاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين ذكر الحديث القدسي الشريف الذي يقول: “لا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فأكون أنا سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ولسانه الذي ينطق به، وقلبه الذي يعقل به، فإذا دعاني أجبته، وإذا سألني أعطيته“ الريشهري، ميزان الحكمة، ج ٣ ص٢٥٤٠.
● وهذه الدرجة تستوجب من العبد التخلص من كلفة اليقين، بمعنى أنه يتخلص من الصفة ويعيش الفكرة والمضمون، فلا يكون محتاجًا للاتصاف بها لأنه يحياها بكل جوانبه.
● ومن منازل حق اليقين أن يفنى فيها ولا ينفك عنها، ولا يكون له وجود دونها، ولا يعود مجرد مُتصفٍ بها، فلا يرى لنفسه مقدرة ولا أثرًا قبالها.
الخلاصة: اليقين بدرجاته الثلاث ومنازله المتعددة لا يتحصل للعبد إلا بسلامة النية والتسليم المطلق، والسعي الحثيث والجاد للذوبان في ذات لله تعالى، و هو أعلى درجة من درجات العوام من الناس في سلوكهم إلى الله تعالى، وهو مدخل لبداية الدخول في درجات الخاصة، يتوجب علينا كمؤمنين أن نكون ساعين لتحصيل ما تيسر من هذه الدرجات؛ لنحظى بالراحة والفرحة والأمن والاطمئنان، وكل حسب طاقته ومقدرته وإيمانه، ولبلوغ درجات اليقين والتنقل بينها يحتاج العبد إلى تصفية روحه من الشوائب، والعودة للفطرة السليمة، والنظر في العالم القدسي بالفكر والروح والقلب معًا.
#cwprotect