درجات الزهد وتعريفها
قال تعالى: ﴿بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ سورة هود – الآية ٨٦، معنى لفظة “زهد“: زهِدَ في الشَّيء: زهَد، أعرض عنه وتركه مخافة الحساب أو العقاب، لاحتقاره أو قلّته أو التَّحرُّج منه.
فلفظة الزهد لا تقف فقط عند المعنى الديني، بل يتعداه ليشمل كل تصرف على نحو الإعراض عن شيء ما والميل لغيره لسبب راجح عقلًا وشرعًا، فمثلًا قد يزهد الإنسان في منزل واسع وجميل ويعرض عنه لسوء خلف جيرانه.
● الزهد هو إسقاط الرغبة تمامًا عن شيء ما: وهو عين الإعراض وترك أمر ما بالكامل وعدم الشوق إليه والتفكير فيه أصلًا.
● والناس جميعهم مطالبون بنحو من أنحاء الزهد وتمرين النفس على هذه الفضيلة العظيمة لتربيتهم على اللجوء والسكون لما هو خير لهم ﴿بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ سورة هود – الآية8٨٦، فما عند الله باق وما عند الناس ينفد. والزهد لا يعني أبدًا أن ينقطع الإنسان عما أنعم الله عليه من نعم وقابليات ويتركها دون مبالاة، بل يعني ألا يتعلق الإنسان بها بحيث تكون جزءًا من همومه فتكون عبئًا روحيًا عليه تحجزه عن المسير نحو الكمال، فمتعلقات الدنيا كالزوجة والأولاد والمنزل والمركب والمال والجاه وغيرها من نِعَم، هي أمور لابدية في حياة أي إنسان، وكمال يتطلع إليه كل فرد، ولكن هذا لا يعني أن تمنعه كل هذه الضروريات عن أن يكون ملكًا حقيقيًا لله تعالى، فيتعلق بها وتصده عن العروج لله تعالى بروحه ونفسه ودمه.
● وقد عرفوا الزهد بأن تملك الشيء لا أن يملكك الشيء، وهذا يعني أن الأصالة هنا هي لك أيها الإنسان، وباقي الأمور هي فروع ثانوية اكتسبتها لتسهل حياتك وتتكامل بها، فإذا ما صار أن سيطرت عليك فروعك التي تكتسبها للتكامل انحنت بك عن المسير وأقعدتك عن التوجه.
الزهد على درجات مختلفة :
١- الزهد في الشبهة بالحذر
ولأن العقل يدعو الإنسان دائمًا إلى الأخذ بالاحتياط وعدم تقحم المهالك فالزهد في الشبهات التي ليس معلومًا حرمتها من حليتها أو نفعها من ضررها، أمر راجح. فمثلًا: قد يرغب إنسان ما بأن يستثمر مقدارًا معينًا من المال في مشروع تجاري، وهذا يهدف إلى كسب مزيد من المال، وهو أمر مشروع، غير أنه إنْ لم تتحقق له مشروعية هذا النوع من المشاريع من حرمتها فيكون أمام شبهة. فهنا العقل والشرع يحكمان بضرورة التريث والابتعاد عن مثل هذه الخطوة لما فيها من احتمال وقوع ضرر دنيوي أو أخروي أو كليهما على الإنسان. وهو إنما يبتعد عن الدخول في مثل هذه المشاريع حذرًا وخوفًا من أن يتم خداعه من قبل أطراف معينة أو أن يكتسب مالًا لا يكون طاهرًا فيقع في الحرمة.
٢- الأنفة من المنقصة
وأحيانًا لا تكون في الأمر شبهة، فهو يعلم بحلية ما سيقدم عليه، ولكنه يترفع عن المضي فيه لما فيه من مخافة الوقوع في النقيصة والاتهام من قبل الله تعالى، سواء أكان الأمر مرضيًا عند الناس أم لا. فمثلًا: قد يقدم إنسان على شراء بضاعة ما في وقت الوفرة بثمن معين معتدل معرفة منه أن هذه البضاعة ستكون شحيحة في قابل الأيام وسيرتفع ثمنها، وبذلك سيحصل على أضعاف ثمنها المبذول أصلًا، وهو قد يكون أمرًا مشروعًا عند المجتمع، ولكنه ربما يكون غير مقبول عند الله تعالى؛ حيث إنه سيوقع الإنسان في النقيصة والملامة عند الله على أخذ ربح زائد على أهل ملته وهم مضطرون لا راغبون.
٣- كراهة مشاركة أهل الدنيا
وأحيانًا يكون الأمر جليًا عند الإنسان وواضحًا، وهو لا يقتصر على المخافة من الوقوع في الشبهات ولا الخوف من المنقصة، ولكن لمجرد أن يدخل في سلك أهل الدنيا كالبيع والشراء استثمارًا مع أنه أمر مشروع في حد ذاته ولكن قد يبعد الإنسان غير المتفقه ولا الملتفت لنفسه والمتحكم فيها عن المسير نحو الله. فالمال يجر المال والنجاح يفتح آفاق نجاحات أو خسارة، فيفرح تارة ويحزن تارةً أخرى، وبهذا يكون في فرحه وحزنه ليس لله وإنما اهتمام بالدنيا التي قد أمر بأن لا يتعلق بها فيكون من أهلها ويخسر مقامه عند الله تعالى.
٤- الزهد عن كل ما يعد زائدًا عن الحاجة
وهي درجة أرقى في الامتناع والتحفظ، وهنا بالتأكيد ليس في الأمر ما يشوبه من شبهة أو نواقص أو حب للدنيا، بل الأمر على خلاف ذلك كله. وبنظرة فاحصة للمجتمع نرى أن الثري يعيش، والغني يعيش، والميسور يعيش، ومتوسط الحال يعيش، والمحتاج يعيش، والفقير يعيش، والمسكين يعيش، وكل حسب إمكانياته ووضعه. فلو تواجدت القناعة والتكافل الصحيح في المجتمع لوفر الثري شيئًا للمسكين يرفع عوزه، ولأعطى الغني شيئًا للفقير يعدل وضعه به، ولصرف الميسور للمحتاج ما يرفع حاجته. فهنا الزهد يحث الإنسان على أن يعيش بما يصلح به شأنه وشأن غيره من الناس ليدخل في ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾سورة العصر – الآية ٣.
٥- الزهد في الوقت بعدم تضييعه
وهذا من أنواع الزهد الراقي الذي يحث فيه الإنسان بالاهتمام بما هو أفضل دائمًا وإتيان ما فيه خير للإنسان والعباد، فيبخل بوقته ويراه زاده، فمثلًا: لو اعترض زاهدًا في الوقت أمران وكلاهما حلال وراجحان، وكلاهما مهمان، غير أن الأول يعود عليه بالنفع في دنياه والآخر يعود عليه بالنفع في آخرته. فعقل وتوجه هذا الزاهد سوف يميل لأن يستثمر الوقت لما فيه مصلحته في الآخرة فيقدمه على الآخر.
الخلاصة: لا يجب أن يفهم مما مر ذكره من شرح أن على الإنسان الانقطاع عن الأخذ بالأسباب والجلوس في البيت أو المسجد والاقتصار على الصلاة وترك الكد على العيال بما يليق وشأن الإنسان، ولا يفهم منه عدم السعي إلى الغنى وتحصيل المزيد من المال، ولا يجب أن يفهم منه عدم مزاحمة الدنيا بتحصيل العلوم والفنون التي تطور من شأن الإنسان والمجتمع، بل ما يجب أن يستحضر حين الحديث عن الزهد والارتقاء في مراتبه هو أن يكون الإنسان مسيطرًا تمامًا على نفسه وماله ووقته وأفكاره، ولا يكون خاضعًا لهواه فيها، وأن يكون مالكًا لأمره، فحين تقتضي الحاجة إلى بذل المال تصدّق دونما تردد، وحينما تقتضي الحاجة العطاء أعطى من دون تململ، وحينما يقتضي الأمر ترك الدنيا بما فيها يتركها دونما تفكير فيها، كما حصل مع زهير بن القين رضوان الله عليه، فتأمل.
وعلى عكس ما تميل إليه النفس البشرية عادة في كنز المال وتخصيصها للذات، من الممكن أن يتبنى الإنسان مبدأً يجعل منه يعمل كأمة ولو كان وحيدًا ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِّلَّهِ﴾ سورة النحل، الآية ١٢٠، وهو مع ذلك متوجهٌ لله لا تصده عنه دنيا ولا التلبس بشؤونها، كما كان كذلك نبي الله سليمان في ملكه، وكما كان كذلك إمام المتقين أمير المؤمنين علي عليه السلام حينما قال: (يا دنيا يا دنيا إليكِ عني، أبي تعرّضتِ أم إليَّ تشوقتِ؟ لا حان حينكِ، هيهاتَ غرٍّي غيري، لا حاجة لي فيكِ، قد طلقتكِ ثلاثًا لا رجعة فيها، فعيشكِ قصير، وخطركِ يسير، وأملكِ حقير).