يتوق الإنسان السوي لبناء ذاته بناءً محكمًا ورصينًا، وفي سبيل ذلك يسعى جاهدًا لتهيئة نفسه لاستقبال كل عوامل البناء الداخلي، إذ به تتحقق فكرة الإنسان الكامل السائر نحو الله والمستخلف في الأرض وفق النظرية الإلهية، ولا يمكن أنْ يتحقق ذلك دون معرفة الإنسان لذاته، حيث إنّ هذه المعرفة منطلقٌ لمعارف عديدة وكبرى، أسُّ المعارف هي معرفة الله سبحانه وتعالى.
جهاد النفس
ومن هنا فإن أُولى المقدمات لتلك المعرفة هي جهاد النفس وهي الحاكمة على البدن، وبها يتشكّلُ سلوكُ الإنسان وأفعالُهُ وتصرفاتُهُ، عن أبي عبدالله عليه السلام قال: (مثل روح المؤمن وبدنه كجوهرةٍ في صندوق، إذا أُخرجتْ الجوهرةُ منه طُرحَ الصندوقُ ولم يعبأْ به، وقال عليه السلام: إنّ الأرواح تمازحُ البدنَ ولا تواكله، وإنّما هي كللٌ للبدن ومحيطةٌ به)المجلسي، بحار الأنوار، ج85 ص40، فالإنسان إذن هو ثُنائي التركيب، فالنّفس هِيَ جَوهرُهُ وحَقيقَتُهُ، وأمّا الجَسد فَهُو أدواةٌ تُسَيطر النّفس على حَركتِهَا وتُسييرها، وَلَولا وجود النّفس في الجسد لتَوقّـف الأخير عن الحَركة ولأصبحَ جامدًا، وبعبارة أخرى فالجَسد هو عبارة عن وسيط بين النفس وبين العالم الخارجي.
لذلك وحتى نضمن أن تكون حركة الإنسان حركة سويةً صاعدةً نحو الكمال ِمنطلقةً بعيدًا عن الرذائل حتى تتجمل بالإيمان الذي هو الزينة الحقيقية للإنسان قال تعالى (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالعِصْيَانَ أُولَٰئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) سورة الحجرات، آية 7، وفي مقابل ذلك فإنّ ركون الإنسان إلى الأرض ومغرياتها هو خطٌّ تنازليٌّ بعيدٌ عن الله تعالى، ولذلك جاء التعبير القرآني دقيقًا في توصيف حالة الالتصاق بالأرض مقابل عدم الاستماع لنداء الحق، قال تعالى (أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ ٱنفِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱثَّاقَلْتُمْ إِلَى ٱلأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا مِنَ ٱلآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا فِي ٱلآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ) سورة التوبة، آية 38.
فلذلك إنْ صَلُحَت هذه النّفس واستَقامَت صفاتها وأخلاقها كانَت هيَ الدَّليل والمُرشد نحو الخَير والصّلاح ومَنشأ الحَسَنات والنجاة في الدنيا والآخرة، وهنا لا بُد من الاشارة الى أن الإنسان في دارِ الدنيا إنّما هُو في دارِ امتحانٍ واختبار.
مفتاح القرب الإلهي
ينقدح سؤالٌ في الذهن غاية الأهمية، والذي يحتاج إلى إجابة واضحة وشافية، وهو كيف يصل الإنسان لحالة الإشراق والهجرة إلى الله سبحانه؟ وما هي العوامل المساعدة لتحقيق تلك الحالة؟ وما هي أهم الأدوات المعينة التي تأخذ بيد الإنسان إلى ساحل القرب الإلهي؟
هناك الكثير من المفاتيح التي يستطيع الإنسان استخدامها لفتح أبواب القرب لله سبحانه وتعالى والنجاة من حبائل الشيطان، وقد رسم علماء الأخلاق خارطة طريق لكمالات الإنسان، كما بيّنوا في موارد عديدة أدوات التخلص من رذائل الأخلاق، ومن تلك الأمور هي تفعيل تقنية التخلية والتحلية فما المقصود منهما؟ وأيهما أسبق من الآخر؟
التخلية
التخلية في اللغة تعني الإفراغ، وتخلية المكان إفراغه ورفع اليد عنه، والتخلية في معناها الاصطلاحي: إفراغ النفس من رذائل الأخلاق وتخليتها من سوء الصفات والأهواء النفسية، وتنزيه الباطن وتطهيره من الصفات الرذيلة وكل ما لا يلائم الحياة الأخرى كالحسد والبغض والعداء والرياء والكبر والعجب وحب الدنيا والمفاخرة والحرص وسوء الظنّ وطول الأمل والغفلة وغيرها من الرذائل، وللملا صدرا تعريف جميل حيث يقول: وأمّا التخلية فهو أن يتخلى عن رذائل الأخلاق كالبخل و الحسد والكبر وغيرها، ويترك الشرور اللقلقية والقبقبية والذبذبية المشار إليها في حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلّم: من وُقِيَ شر لُقلقهِ وقُبقبهِ وذُبذبهِ فقد وُقِيَ الشّرّ كلّه، ويعني باللقلق اللسان، والقبقب البطن، والذبذب القضيب، فالتخلية في حقيقتها تعبير آخر عن التزكية، فإذا ما عبّر بتزكية النفس فإنّ المرادَ هو تطهيرُهَا وتخليتُهَا من الرذائل والأخلاق الذميمة.
ومن المعلوم والمتيقن أنّ كلَّ إنسان معرّضٌ لأنْ يتلوّث بالصفات الرذيلة بمقدار تعلّقِهِ بالحياة الدنيا وغفلتِهِ عن الآخرة، وليس أمام التوّاق للهجرة إلى الله سبحانه والتّعلّق بالمحبوب المطلق إلّا إزالة هذا التلوّث وتصفية الباطن من كلّ الكدورات والتّفكير الآسن، ليتمكّن بقلبٍ نقيٍّ من تحلية نفسه بالصفات الحميدة وتهيئتها لمقامات القرب الإلهي، لذا فطالب الكمال والباحث عن طريق الحقّ عليه أنْ يلتفت إلى هذه الحقيقة، ويدقّق كثيراً في حالاته وصفاته النفسانيّة، ويعمل على إخراج القبيح والسيء منها وتطهير نفسه منها.
التحلية
التحلية في اللغة تعني تَحْلِيَةُ الْمَاءِ أي جَعْلُهُ عَذْباً سَلِسًا، وحلّى الإناءَ جعلَهُ جميلًا، وحلّى القلبَ جعل فيه ما يصيّرُهُ جميلًا حسنًا، وفي الإصطلاح هي العمل بالطاعات والمبرّات والقربات، وتحلية النفس بالصفات الروحانيّة والأخلاق الإلهيّة مما يترتب عليه تحلّي القلب وتزكيتُهُ بالفضائل كالعفّة والشجاعة والحكمة وغيرها، وفيها يتم تعبئة النفس بما يرقيها في تكاملها وارتقائها.
وللملا صدرا في هذا المقام تعريف دقيق للتحلية، فقد عرّفها بقوله: وأمّا التحلية فهو أن يتخلعَ بخلع الأسماء والصفات ويتخلق بأخلاق الله، كما في الحديث النبوي: تخلقوا بأخلاق الله، فإنّ الصفات الرذيلة تنشأ بمقتضى الحياة الماديّة المحدودة والمظلمة، وكلّما انقطع الإنسان عن التعلّق بالحياة الدنيا ومحبّتها تتهيّأ الأرضيّة المناسبة لحياة الآخرة، حياة القرب والدنو من العلي الأعلى، يقول تعالى (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) سورة القصص، آية 83، حتى يتخلّص الإنسان الكامل من ظلمة العالم المادي وتقييده، ويدخل في عالم الآخرة وتشرق في قلبه لمعات القرب من الله، متصفًا بصفاته ومتخلقًا بأخلاقه تعالى.
العلاقة بين التخلية والتحلية
يعتبر علماء الأخلاق أنّ التخلية تسبق التحليةَ كشرطٍ لحصول الفائدة، وإلا لن يتحصل السائر نحو الله تعالى تلك الفائدة الكاملة، لأنّ النّفس تكون غير مستعدة للفيوضات القدسية إذا لم تكن صافيةً خالية من الكدورات، ويمثلون لذلك بالمرآة الصافية التي تقبل بارتسام الصور حال صفائها، وأمّا إذا لم تكن صافية نقيّةً فإنها لا تقبل بانعكاس الصور فيها بوضوح وجلاء لأنّها غير مستعدة، فالارتسام مشروطٌ بالصفاء، وكذلك النفس حين لا تكون خالية من الرذائل فإنّها بالضرورة لا تقبل بمكوث الفضائل فيها.
فقبول النّفس بفضائل الأخلاق الحميدة يتوقف على عاملين وشرطين أساسيين، وهما فاعلية الفاعل (وهو الإنسان نفسه) وقابلية القابل (وهي نفسه بما هي هي)، إنّ معرفة الرذائل الأخلاقيّة ضروريّة ومفيدة عند طبيب الروح، كما أن معرفة السموم ضرورية ومفيدة عند طبيب الجسم؛ لأنه بذلك يتمكّن من الابتعاد عنها، ومن تحذير الآخرين من مخاطر الوقوع فيها، وإذا ما ابتُلي البعض بتلك السموم فلابد أن يسلك طريق العلاج.
يقول علماء الأخلاق: ترك الرذائل واجتنابها من التخْلية، أي تخْلية النفس عن الرذائل الأخلاقية وهي مقدمة على التحلية أي تحلية النفس بالفضائل الأخلاقية، إنّ هذا الكلام تام، إلّا أنه يجب الالتفات إلى أن التخلية عن الرذائل تختلف عن التحلّي بالفضائل؛ لأن الفضائل متجذّرةٌ في طينة الإنسان، أما الرذائل فهي أمور عرضيّة؛ وعندما تتعلّق روح الإنسان ببدنه، فهي وإن كانت منزّهة عن الرذائل الأخلاقية ولكنّها ليست خالية عن الفضائل، بل خُلقتْ مع فضائل الميل نحو الحق والتي يعبرعنها بالفطرة التوحيديّة قال تعالى(وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) سورة الشمس، آية 7 – 8.
ويذكر علماء الأخلاق طرقاً للتخلص من رذائل الأخلاق، فإذا أراد أحد أن يزكي نفسه فعليه أن يتبع العلاجات التي يذكرها علماء الأخلاق حتى يتخلص منها جميعاً وبذلك تتم التخلية ثم بعد ذلك يقبل عن العمل بالطاعات المقربة الموجبة بتحصيل الفضائل. وتكون كتب الأخلاق وبعض كتب السير والسلوك نافعة في رسم المنهج الصحيح للتخلية والتحلية.
فقد عنى علماء الأخلاق بطهارة البعدين الظاهري والباطني لكل من يسعى لتخلية النفس وتحليتها، وحرروا لذلك شتى البحوث، حيث أنّهم اعتبروا الطهارة المادية في مقام الظاهر والصورة وموضوعه هو البدن، حيث يُراد من صاحبه تخليصه من جميع النجاسات المادّية فضلاً عن الأوساخ والقاذورات فعن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله: ” تنظّفوا بكلّ ما استطعتم فإنّ الله تعالى بنى الإسلامَ على النظافة ولن يدخل الجنّة إلاّ كلّ نظيف“، وأمّا بالنسبة إلى النظافة والطهارة الباطنية ـ وهي الأهمّ مرتبة والأصعب تحقّقاً ومنالاً ، فإنّ موضوعها هو تطهير النفس أو القلب أو الروح من الأدران المعنوية وجميع الرذائل والموبقات والخبائث الباطنية، من قبيل الكذب والرياء والعجب والحسد وسوء الظنّ والعصبية الجاهلية والنفاق والنميمة، فضلاً عن الشرك والكفر والإلحاد، وغير ذلك.
فائدة التخلية والتحلية
إنّ تحصيل الطهارتين الظاهرية والباطنية من الشروط الأساسية للوصول إلى تلك المعارف الفطرية الحقّة التي أودعها الله تعالى في النّفس البشرية، التي يسعى الكُمّل ُمن الناس للوصول إليها وتحصيلها ولذا فإنّ عدم تحقق تلك الطهارتين أو عدم تحقق أحدهما يُشكِّل مانعًا فعليًّا يحجب طالب المعرفة عن الوصول إلى مراد، يعتقد علماء الأخلاق أنّ الخطوات الأولى في علم الأخلاق، التعرّف إلى الرذائل الأخلاقية وتجنبها؛ ففي البداية يجب على الإنسان معرفة الرذائل الأخلاقيّة والنفسانيّة ومن ثم طردها على شكل الدفع أو الرفع، بمعنى أنه إذا كان غير واجد لها، عمل لكي لا يبتلى بها، وإذا كان واجدًا لها، عمل لطردها.
وفي هذا الصدد لو أردنا تسليط الضوء على الحركة الثانية التي هي الحركة الأخلاقية فلابدّ من القول بأنّ الصبرَ أساسُ الأخلاق وبه يتمُّ طيّ المراحل الأخلاقية الثلاث، التي هي التخلية والتحلية والتجلية، كما عند علماء الأخلاق والسير والسلوك، وكي يصلَ المرءُ إلى تهذيب النفس وكمالها، فلا بدّ من تخلية الروح والقلب من الصفات الذميمة كالرياء مثلاً، وتحليتهما بالصفات الحميدة كالإخلاص والشجاعة، ثمّ تجلية هذه الصفة حتّى يصلَ الإنسان إلى درجة المخلَصين ليكون بعيدًا عن وسوسة وتزيين الشيطان الذي تعهّد بإغواء جميع البشر، إلاّ عباد الله المخلَصين حسب تعبير الآية القرآنية الكريمة (أَغْوِيَنَّهُمْ أجْمَعِينَ إلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المُخْلَصِينَ) سورة ص، آية 83.