سبل السلام

الإمام علي (عليه السَّلام): «من السَّعادة التوفيق لصالح الأعمال». 

(ميزان الحكمة 4/223، الريشهري)
الإيثار في الإسلام

الإيثار في الإسلام ومنازله

قال تعالى: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ سورة الحشر، آية ٩، معنى لفظة الإيثار : تفضيل الغير على النفس، ومن يؤثر يكون قد خصص غيره على نفسه اختيارًا وهي صفة محمودة، خصوصًا إذا صارت مَلَكَة بعد التطبّع بها. ولا يحسن أن يكون الإنسان مؤثرًا إلا إذا كان يتلذذ ويستأنس حال الإيثار ويفعل ذلك بيسر وسهولة ودونما كلفة، فنفسه طيعةٌ له مستجيبة لفعله. 

ولأن الإيثار من الصفات النبيلة التي تفوق الكرم وتعلوه درجةً صار تحصيلها أمرًا شاقًا على كثير من العباد، خصوصًا أن النفس البشرية يلازمها الشح عادةً، قال تعالى: ﴿وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ سورة الحشر، آية ٩ ولم تقل الآيةومن لم يكن له شح في نفسهفإذًا أن تكون النفس شحيحة بخيلة على الغير بما تملك فهي من الصفات المتلازمة للإنسان تكبر معه حيثما يكبر.

المؤْثرون للغير على أنفسهم إنما أدركوا بأنهم في الحقيقة لا يملكون ما يؤثرون للغير ملكًا حقيقيًا، فالملك الحقيقي هو لله تعالى، وإنما هم ملاك مجازًا وهي من أحوال هذه الدنيا المتقبلة المتغيرة، ولأنهم تيقنوا ذلك صار الأمر عندهم سهلًا ويسيرًا وإن على غيرهم شاقًا وصعبًا.

في إيثار العبد بما يحب لغيره مشقة في النفس وصعوبة على الذات لانشغالها بـالأنا، فعامة الناس لا يرون لذوات الآخرين أولوية مقارنة بالنفس، وذلك لهيمنة أنفسهم على ذواتهم وسيطرة قواهم الشهوية على قواهم العقلية والروحية، ومن هنا يكون عسيرًا على كثير منا التحلي بصفة الإيثار.

و الإيثار على درجات ومنازل:

١إيثار الناس على النفس:

في الأغلب الأعم يفهم من كلمة إيثار هو تخصيص مال أو منفعة لصالح الغير على حساب النفس. ولابد في كون الأمر المؤثر به حلالًا شرعًا وملكًا للشخص المُؤْثر، فلا يجوز التبرع بما لا يملكه الإنسان بعنوان الإيثار.

● وهل إيثار الغير بقوت العيال والأهل من الدين؟ هنا يتبادر للذهن أن مجمل الإيثار محمود وراجح عقلًا وشرعًا، ولكن لابد فيه من ملاحظة أن الإيثار بقوت الأهل لأجل الغير والتبرع لعامة الناس على حساب الأهل والعيال وبطريقة تجعلهم يحتاجون إلى غيرهم ليس من العقل ولا الدين في شيء. ولتعلم أنه لا تناقض بين صيانتك لأهلك وعيالك ونفسك عن الاحتياج للغير وبين خصلة الإيثار التي يطلب فيها تقديم الغير على النفس. إذ إن الإيثار متعلق بما تهواه النفس وترغب في بقائه دونما الدخول في حال العوز، وإلا صار إسرافًا وتبذيرًا. 

● وهل بذل المال للآخرين هو دائمًا إيثار؟ نعم إلا في حالة أن يُلجئُك البذل والإيثار لأن تحتاج إلى لبذل جهد أكبر وصرف وقتٍ أطول لتحصيل ما تعتاش عليه أنت وعيالك، وفي ذلك صرفٌ لك عن الانشغال بالذكر وأداء المستحبات.

● وكما قيل في الأمثالالأقربون أولى بالمعروففحق أهلك وعيالك عليك أكبر من حق غيرهم، فيكون الإيثار عليهم أولى من غيرهم، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: (خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي).

● والإيثار للغير على النفس يكون بما يفضل عن ضرورتك وبذل الوقت في مصالح الأمة وخدمة الناس من الإيثار بما لا يتعارض مع الواجبات المتعلقة في رقبة العبد. فلو تعارض صرف الوقت في خدمة الناس وإتيان فريضة واجبة لما جاز هذا النوع من الإيثار مطلقًا.

● وتربية نفسك وتهذيبها وتعليمها وتزكيتها من الأمور الراجحة عقلًا وشرعًا، فلا ينبغي صرف الوقت والجهد في خدمة الناس لما ليس فيه ضرورة تعادل أو تفوق ضرورة تحصين النفس عن مضلات الفتن بالعلم وتهذيب النفس مع الله تعالى.

٢- إيثار رضا الله تعالى على رضا الغير:

من المحقق أن هناك درجات مقامية عند الله تعالى لا تستحصل لأيٍ كان من الناس، ولا يوفق لها إلا من جد واجتهد وعمل على تربية نفسه وتخليصها من الشوائب والزلل كما هو الحال عند الأنبياء والمرسلين والأئمة عليهم السلام، وكما هو حال كثير من الصالحين الذين تربوا على أيدي المعصومين في زمانهم. هؤلاء لا يؤثرون على رضا الله شيئًا وإن كان فيه ضرر لهم وسخط من الناس عليهم. فهم منشغلون بطاعة الله تعالى ولا يقبلون لغير عزته وعلو مكانته في نفوسهم وفي الناس شيئًا، وإن اضطرهم في سبيل ذلك لبذل المال والنفس فهو من أنفس وأجلى مصاديق الإيثار كما فعل سيد الشهداء عليه السلام.

● هذه الدرجة من الإيثار تحتاج إلى عزم راسخ ويقين بالله عظيم وهي ليست حكرًا على المعصومين والصالحين، فجميع الناس مدعوون لأن يبذلوا قصارى مجهودهم ومالهم وأوقاتهم وأنفسهم في سبيل الله تعالى إذا اقتضت الضرورة ذلك. وعندها يكون بذل الروح في سبيل إعلاء كلمة الله تعالى أفضل الأعمال كما جاء عن النبي صلى الله عليه وآله حين سؤل عن أَفْضَلَ الْجِهَادِ؟ قال: “كلمة حق تقال عند ذي سلطان جائر“.

● وليعلُم أن لإدراك إيثار رضا الله تعالى على رضا الغير مقدمات على العبد المؤمن تحقيقها:

أ. طهارة الأصل ونقاؤه ونزاهة الفطرة وصفاؤها: فكلما كان العبد نقيًا طاهرًا في ذاته سليم الفطرة كان أقرب لنور الله تعالى وكان قلبه أكثر استجابة لله تعالى. فهو بهذا النقاء والصفاء يرجح الحق على الباطل، والخير على الشر، وأمر الله تعالى على أمر العباد، وإن كان في ذلك موته، كما هي سير الأعلام من المعصومين عليهم السلام وأصحابهم الكرام والأمثلة أكثر من أن نحتاج إلى ذكرها.

ب. حسن الإسلام: وهو الذي يوصل العبد للإيمان الحقيقي بالله وعندها لا يقبل المؤمن أن يمتثل لأمر غير الله تعالى، وهذه سيرة الأنبياء عليهم السلام كإبراهيم الخليل الذي صدق الرؤيا. والأمر هنا أيضًا ليس من واجبات المعصومين فقط، بل هو لجميع الناس، غير أنه لا يوفق لهذا الإيثار إلا من امتحن قلبه للإيمان.

ج. قوة الصبر: لأن هذا النوع من الإيثار (بالنفس) يحتاج إلى قوة تحمل وشكيمة ولا يمكن التضحية بالنفس في سبيل الله تعالى من دون وجود قوة داخلية عند الإنسان تجعله صابرًا محتسبًا على الأذى الروحي والجسدي. وهذه القوة مصدرها الإيمان بالله تعالى وزادها اليقين بعطائه، وتحتاج إلى كثير من تزكية النفس وترويضها واستدامة في اللجوء إلى الله تعالى في الشدة والرخاء وعدم الغفلة عن نواهيه والامتثال لأوامره في حالات الرخاء.

العلامات: تثقيف أخلاقي
شارك المقال:
هل وجدت هذا المقال مفيدًا ، يمكنك الاشتراك لتصلك مقالات مشابهة
مواضيع ذات علاقة
القلب السليم ٥ : حب الدنيا - التعلق بالدنيا | سكينة

القلب السليم ٥ : حب الدنيا | التعلق بالدنيا

الإلحاد والدوافع الشخصية

الإلحاد مشكلة نفسية ٨: الإلحاد والدوافع الشخصية

كتب المدرسة العرفانية

المدارس الأخلاقية في الفكر الإسلامي ٧: تابع كتب المدرسة العرفانية

حياة ما بعد الموت ٤: بعث الإنسان | صحيفة الأعمال

حياة ما بعد الموت ٤: بعث الإنسان | صحيفة الأعمال

العرفان والفلسفة

العرفان الإسلامي ٢ : العرفان والفلسفة

القلب السليم ٦ : مرض القسوة

القلب السليم ٦ : مرض القسوة

الإلحاد مشكلة نفسية ٦: الدوافع النفسية للإلحاد - البطل الملحد

الإلحاد مشكلة نفسية ٦: الدوافع النفسية للإلحاد - البطل الملحد

الصمت وضده الهذر

جنود العقل والجهل ٢٠ : الصمت وضده الهذر

العلاقة بين الشريعة والطريقة

العرفان الإسلامي ٨ : العلاقة بين الشريعة والطريقة

هل تكتب مقالات؟

تستطيع الكتابة لمساعدة الآخرين، اكتب لنا و سننشر لك مع الاعتبار لسياسة كتابة المقالات التي نتبعها

Survey
Interested in reading articles
Articles Writer