سبل السلام

الإمام علي (عليه السَّلام): «السَّخاء إحدى السَّعادتين».

(ميزان الحكمة 4/223، الريشهري)
الأدب مع الله تعالى

الأدب مع الله تعالى

قال تعالى: ﴿وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ﴾ سورة التوبة، آية ١١٢، عرف حدود الله بالأحكام الشرعية المبتلى بها الله تعالى والأدب يكون بالتأدب حيالها وعدم مخالفتها لا على صعيد القلب ولا اللسان ولا الجوارح كون الله تعالى مطلعًا على أعمال العبد في كل أحواله.

الأدب مع الله تعالى يكون بالانقياد لحقيقة ما أمر به ونهى عنه من دون أي زيادة، فلا يقع في الغلو والمغالاة ولا نقصان فيه بالجفاء واللامبالاة، مرت أقوام قد بالغوا في تعظيم أنبيائهم فوقعوا في الغلو مثلما حدث مع نبي الله عيسى عليه السلام، فصار ابن إله تارةً، وإلهًا تارةً أخرى، أو كما حدث مع أمير المؤمنين علي عليه السلام من قبل النصيرية حيث ألّهوه.

قال تعالى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ﴾ سورة المائدة، آية ٧٧، ومن مصاديق عدم الغلو ألا يسرف العبد وقت عبادته حتى في وضوئه وغسله ونيته، بل عليه التوسط والاعتدال، فلا يقع عمل بتمامه وصحته ويكون مقبولًا إلا إذا وقع كما أمر الله تعالى، وأحيانًا يقع الناس من حيث يعلمون أو لا يعلمون في الجفاء والاستهتار وعدم مراعاة حرمة الأحكام الشرعية، فيتركون الواجبات ويقصرون في حقها من قبيل ارتكاب القبائح من الأعمال وإتيان المنكرات أو اغتياب المؤمنين وذكرهم بسوء.

فالاعتدال يقي العبد المخاصمة من قبل الله تعالى. وحين يكون العبد في مواجهة الله تعالى فإنه يكون خاسرًا لا محال، الاعتدال وعدم تجاوز الحد يحتاج إلى وعي من العبد، فكثيرًا ما تختلط الأمور إذا ما أهمل العبد الانقياد للأحكام الشرعية فيقع في محذور التجرُّؤ على الله تعالى.

معلوم أنه لا تنال المقامات الروحية والعروج في الملكوت مع وجود المخالفات الشرعية، فأهل القربى أناس لا يأتون الفواحش ولا يقصرون في أداء الواجبات، فأهل القرب هم الصديقون والمصطفون ومن لا يأتون بظلم ولو في حق أنفسهم، قال تعالى: ﴿وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ سورة البقرة، آية ٢٢٩.

الأدب مع الله تعالى على درجات ومنازل:

١- ضبط النفس لكي تكون بين الخوف والرجاء: ومعلوم كما مر سابقًا بأنه مطلوب من العبد القاصد لله تعالى أن يعيش بين الخوف والرجاء لكي يتوسط الطريق ويمتثل السبيل المعتدل نحو الله تعالى، وهي درجة المبتدئين في السلوك إلى الله تعالى.

والأدب يقتضي التحكم في الحالة المعنوية للعبد حال خوفه من الله تعالى أو رجائه له، فلا يخر عن خوفه إلى حالة اليأس ولا يرتفع برجائه إلى حالة الأمن، جاءت النصوص الربانية بما تقتضيه منفعة العبد بعدم اليأس، فقال تعالى ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾ سورة الأعراف، آية ١٥٦، وقال ﴿لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ﴾سورة الزمر، آية ٥٣، وقال ﴿سبقت رحمتي غضبي﴾المجلسي، بحار الأنوار، ج ٢٦ ص ٢٧٦، فينبغي ألا يقع العبد في اليأس مهما كانت مخاوفه من الله تعالى بسبب أعماله غير المتزنة. وأحيانًا فإن العبد يقع في محذور أن يتحول خوفه إلى يأس يقضي على همته للتوبة أو المضي في إصلاح نفسه. ولتوضيح هذا الأمر إليك هذا المثال:

هب أن إنسانًا قد غرّه الشيطان ووسوست له نفسه الأمارة بالسوء فوقع في ذنب كبير بحيث لا تتحمله نفسه فيضج من قباحة ما فعل من قبيل قطع الرحم أو التعدي على حقوق الناس أو الإسراف في المعاصي، بحيث يحصل عنده رد فعل أكبر من أن تتحمله روحه بسبب يقظة من ضمير أو توبيخ من إنسان، وهذا الأمر قد يحصل كثيرًا، وهنا ربما يقع العبد في أمر يتوجب الحذر منه، وهو أن يعظم ذنبه في عينه لدرجة يقلل من رحمة الله تعالى أمام ذنبه فيتوهم بألا تتقبل منه التوبة، وبذا يقع فريسة للشيطان من حيث لا يعلم. فيتوجب أن يعلم الإنسان أن الله تعالى لم يوصد باب التوبة أمامه مادام في حياته، فعليه المبادرة بها قبل فوات الأوان.

وهنا نشير إلى مسألة مهمة تبين مدى رحمة الله تعالى وسعتها حتى أن الشيطان يطمع فيها يوم الحساب. فقد يتصور أي إنسان منا أنه وبسبب الوقوع المتكرر في المعاصي وإتيان الذنوب على اختلافها بأن باب التوبة قد أغلق في وجهه، والحقيقة على عكس ذلك تمامًا، فالله تعالى رحيم تفوق رحمته كلّ تصور، غاية ما في الأمر أن الخاسر بإتيان المعاصي وتكرارها هو العبد نفسه، حيث إنْ تأخر في التوبة فسيكون قد فاتته نفحات ربانية عظيمة تقربه أكثر فأكثر من الله تعالى.

وعلى المقلب الآخر فإن زيادة الركون للرجاء والأمن من مكر الله تعالى قد يوصل العبد للخسارة وهو في غفلته وتسويفه، قال تعالى ﴿أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ﴾ سورة الأعراف، آية ٩٩، يعني أن الإفراط في قول إنه لا يزال هناك وقت أمامي لكي أتوب والفرصة سوف تبقى. هذا القول قد يعد تحديًا لله تعالى وإصرارًا على البقاء في المعصية، وهو أمر يمقته الله تعالى للعبد، وعليه يتوجب الحذر من غضب الله في مثل هذه الأمور، فيتوجب حبس الرجاء والبقاء في حده لكيلا يخرج العبد منه إلا التسويف واللامبالاة فيعد مستهزئًا. وإليك هذا المثال لتتضح الصورة أكثر:

هب أن إنسانًا قضى من عمره سنين وهو لا يهتم بدعوة الله تعالى لقربه مخافة أن يفوته شيء من حطام الدنيا وملذاتها بالحراموهذا الحال قائم في العباد كلهموغيره من الناس قد تلقف هذه الدعوة والتزم بها واطمأن لثواب الله تعالى الأخروي فتقبل دعوة الله تعالى للتوبة! هنا وهما في حال الدنيا سيكون الخاسر في نهاية المطاف هو العبد الذي لم يتقبل دعوة الله تعالى وسيكون ظالمًا لنفسه، قال تعالى ﴿وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ سورة البقرة، آية ٥٧، وهو إنْ نال التوبة بعد مرور السنين فسيكون قد أضاع على نفسه كثيرًا من الألطاف والفيوضات، وغيره من الناس قد استفاد من التزامه وترقى في سلّم الكمالات وسبقه بإخلاصه نحو النور والرحمة. ومع ذلك فإن تاب وحسن عمله فقد تاب الله عليه، ولكن عليه أن يجد أكثر فأكثر ليصل لما قد وصل إليه غيره من العباد الذين أصلحوا أنفسهم لملاقاة الله تعالى قبله، فتأمل.

فالتوسط بين الخوف والرجاء يقتضي ضبط النفس بين السرور والحزن، وهذا من الأدب والتأدب في حضرة الله تعالى، فالسرور الذي يتجاوز الحد الطبيعي يؤدي إلى الفرح فيخرج الإنسان عن الاعتدال، قال تعالى ﴿لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُم بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ سورة آل عمران، آية ١٨٨. فالفرح الخارج عن الحد قد يدخل العبد بين الإفراط والتفريط، وهذا ما يمقته الله تعالى.

٢- تأدب القلب: 

بعد أن بيّنّا ما ينبغي أن يكون عليه حال العبد بين حالتي الخوف والرجاء، وهما صفتان نفسيتان، فلا يسرف في أيٍّ منهما، بل عليه الاعتدال دائمًا، فينبغي أن نعرف أنهما فرعان لأصلين قلبيين. فالقلب هو المحور في الارتقاء والتفاني في الملكوت وعليه يدور العمل في التنقية ليكون مؤهلًا لتلقي النور والرحمة والإفاضات. 

فعندما يتمكن العبد من ضبط حاله بين الخوف والرجاء، فهو عمليًّا ينتقل من العمل على مضمار النفس إلى العمل على ميدان القلب. والقلب فيه قبض وبسط، والقبض أصل للخوف، والبسط أصل للرجاء.

القبض غلبة الخوف، وبالبسط غلبة الرجاء على القلب، فإذا خاف العبد من وعيد الله كان قبضًا، وإذا رجا العبد وعد الله ونعيم الله كان بسطًا، وأن الله تعالى إذا كاشف عبدًا بنعت جلاله قبضه، وإذا كاشفه بنعت جماله بسطه، فحالتا القبض والبسط تتعاقبان على القلوب تعاقب الليل والنهار، فإذا غلب حال الخوف كان مقبوضًا، وإذا غلب حال الرجاء كان مبسوطًا، وهذا حال السائرين. أما الواصلون فقد اعتدل خوفهم ورجاؤهم، فلا يؤثر فيهم قبض ولا بسط، لأنهم مالكو الأحوالَ“.

ولكلٍّ من القبض والبسط آداب، فآداب القبض: السكون للأقدار، وانتظار الفرج من الكريم الغفار. وآداب البسط : كف اللسان، وقبض العنان، والحياء من الكريم المنان. والبسط مَزَلَّة أقدام الرجال“.

العلامات: تثقيف أخلاقي
شارك المقال:
هل وجدت هذا المقال مفيدًا ، يمكنك الاشتراك لتصلك مقالات مشابهة
مواضيع ذات علاقة
المدارس الأخلاقية في الفكر الإسلامي ١: مدرسة الأخلاق | اتجاهات الأخلاق

المدارس الأخلاقية في الفكر الإسلامي ١: مدرسة الأخلاق | اتجاهات الأخلاق

درجات الزهد وتعريفها

درجات الزهد وتعريفها

داء الكبر

القلب السليم ٤ : داء الكبر

القلب السليم ٢ : داء الحقد | الحقد في الروايات | علاج الحقد

القلب السليم ٢ : داء الحقد | الحقد في الروايات | علاج الحقد

درجات ومنازل الصبر في الإسلام

درجات ومنازل الصبر في الإسلام

كتب المدرسة العرفانية

المدارس الأخلاقية في الفكر الإسلامي ٧: تابع كتب المدرسة العرفانية

الرأفة والرحمة وضدهما القسوة والغضب

جنود العقل والجهل ١١ : الرأفة والرحمة وضدهما القسوة والغضب

الرغبة إلى الله

الرغبة إلى الله ودرجات تحققها

كتب المدرسة التوفيقية

المدارس الأخلاقية في الفكر الإسلامي ٩: كتب المدرسة التوفيقية

هل تكتب مقالات؟

تستطيع الكتابة لمساعدة الآخرين، اكتب لنا و سننشر لك مع الاعتبار لسياسة كتابة المقالات التي نتبعها

Survey
Interested in reading articles
Articles Writer